إسكندرون رايح جاي
ياسين سويحة
يتعدّى معنى التصريح، الخطابي والاستعراضي، لأحد أعضاء “مجلس الشعب” السوري في جلسته الأخيرة حول “أننا” (ليس واضحاً إلى من يشير الضمير) “سامحناك يا أردوغان بلواء اسكندرون، إﻻ أننا الآن سنطالبك به”، الوجه الفكاهي لجعجعة شخصيّة حصلت موقعها وامتيازاتها بفضل هذا النوع من قرع الطبول. فبهلوانيّة الموقف “الرسمي” للنظام السوري، حيال لواء اسكندرون خصوصاً، والعلاقة مع تركيا عموماً، تظهر على شكل حَرَد صبياني يجد أساسه في قراءة المصالح الضيقة لنخبة النظام وأجواء علاقاتها مع الخارج، من دون أيّ ارتباط بمنطق الدولة في القراءة والتصرّف حيال مسألة حقّ دولة في أرض مُستولى عليها، أو حيال المصالح الاقتصادية للبلد وأهله.
النظام الوطني المُمانع لغزو “العثمانيين الجدد”، والذي ﻻ يفرّط بالثوابت الوطنيّة ويتذكّر أن لواء اسكندرون هو أرض سوريّة مستولى عليها تركياً منذ أواخر العام 1939، هو نفسه من تنازل عنها في اتفاقيّة أضنة العام 1998، ثم وقّع اتفاقيّة مشروع سوري – تركي لإنشاء سدّ على نهر العاصي عند حدود اللواء مع محافظة إدلب، معترفاً في صيغة الاتفاقية بأن أرض اسكندرون تركيّة. المقاربة السلطوية بسيطة، وﻻ علاقة لها بأي حساسيّة اتجاه القضايا السياديّة لسوريا: في الإمكان توظيف أيّ قضية لأجل مصالح طغمة النظام من خلال الشعارات الطنانة والمزايدة، حتى لو استخدمت القضية نفسها في اتجاهات متعاكسة. هذا أولاً. ثانياً، والأهم، بحسب السلطة، أن البشر، لا سيما السوريين، أغبياء، وﻻ ذاكرة لهم بخصوص العلاقات التركيّة إلا بناءً على ما يظهر في المسلسلات السوريّة التي تصوّر فظائع الاحتلال العثماني لسوريا، بل تظهر هذه المسلسلات وتختفي بحسب برودة العلاقة ودفئها مع جار الشمال، الذي يكون تركياً أحياناً، و”عثمانياً جديداً” أحياناً أخرى!
في مجال العلاقات السوريّة – التركيّة، قضيّة الاسكندرون النموذج الوحيد لمقدرة النظام على فعل الشيء ونقيضه، والتباهي بالتوجهين معاً. فحين كانت نخبة النظام في حاجة إلى أردوغان، كطوق نجاة من العزلة الدوليّة، بدا جيّداً توقيع اتفاقيّة تجارة حرّة بين سوريا وتركيا، اتفاقيّة بلغ حجمها 2.5 مليار دولار العام 2010، منها حوالى 750 مليون دولار فقط صادرات سوريّة. الميزان المائل، بشكل مجحف، لمصلحة الأتراك، والذي أدّى إلى إغراق الأسواق السوريّة ببضائع تركيّة استحال على القطاع الصناعي السوري، الضعيف أصلاً، أن ينافسها، لم يكن، بكارثيته على الصناعة السوريّة، مشكلةً يُنظر إليها، طالما أن هذه اﻻتفاقية تساعد في ترطيب أجواء العلاقة اﻻستراتيجيّة مع حكومة أردوغان. كان يجب الانتظار حتى الربع الأخير من العام 2011، أي بعد سبع سنوات على إبرام اتفاقيّة التجارة الحرّة، وبعد أربع سنوات ونيف على دخولها حيّز التنفيذ، وبعد (ياللصدفة) تسعة أشهر على اندلاع الثورة السوريّة وتدهور العلاقات بين النظام السوري وحكومة أردوغان، حتى يكتشف وزير الاقتصاد والتجارة آنذاكن الدكتور محمد نضال الشعّار، النار والدولاب والقنبلة النووية معاً: الميزان التجاري مع تركيا خاسر وكارثي للاقتصاد السوري، وبالتالي يجب إعادة النظر في اتفاقيّة التجارة الحرّة.
لم تلغ “الحكومة السوريّة” اتفاقية التجارة الحرّة إلا بعدما فرضت تركيا عقوبات اقتصاديّة على سوريا… مثالٌ آخر على منطق الدولة الذي يجعل الاسكندرون يذهب ويأتي، والميزان التجاري يتأرجح بحسب مزاج حكام دمشق.
بالمناسبة، عضو مجلس الشعب الذي سامح أردوغان بالاسكندرون، ثم غيّر رأيه، هو محمد خير الماشي، والذي، توازياً مع رأس النظام، ورث المقعد عن أبيه، الشيخ دياب الماشي – أقدم برلماني في العالم كما كان يتباهى، بل وأحد الشواهد السورياليّة التي ظهرت في فيلم “الطوفان في بلاد البعث” للراحل عمر أميرالاي.
طوفان… حقاً طوفان!
المدن