إسلاميون ومرتدّون معاً/عمر قدور
لم يحمل «ميثاق الشرف» الذي أصدرته مؤخراً مجموعة من الكتائب الإسلامية جديداً للطيف المدني في سوريا، فهو يتضمن تطمينات كان يُفترض اعتبارها من بديهيات النشاط الثوري أساساً، فضلاً عن احتوائه لعبارات قد يجري تأويلها لاحقاً على وجه ينفي ما هو ظاهر منها، كالقول بأن موقّعي البيان مع حقوق الإنسان التي يحثّ عليها الدين الحنيف. فعدم اكتفاء الموقّعين على البيان بتعبير «حقوق الإنسان» يُفهم منه تقييداً لها على الطريقة الإسلامية؛ جدير بالذكر أن النظام «العلماني» أيضاً له سوابق في تقييد الحقوق الأساسية والتحفظ على بعض المعاهدات الدولية الخاصة بها، بذريعة مخالفتها للشريعة الإسلامية، ومن ذلك تحفظه على عدة بنود في اتفاقية سيداو الخاصة بحقوق المرأة. أما عدم التزامه بالاتفاقيات التي وقع عليها، وانتهاكاته للاتفاقيات الخاصة بحرية الرأي وتلك الخاصة بمنع التعذيب، فلم يعد للحديث عنه أي قيمة بعد الفضائح المدوية لعشرات الآلاف الذين قُتلوا تحت التعذيب.
على أية حال، ليست مهمة هنا المقارنة بين هذه الكتائب ونظام فاق بوحشيته كل الحدود، لأن المطلوب سورياً هو طي صفحة الانتهاكات نهائياً، وعدم الإتيان ببديل تحت راية «الأقل سوءاً»، وأيضاً عدم الإتيان ببديل أيديولوجي تحت راية «الاعتدال». ذلك لا يعني إقصاء أية جهة سورية من المشاركة في الحياة السياسية العامة، لكنه يهدف إلى إعطاء الكلمة للسوريين في جو ديمقراطي ليقرروا ما يريدون، فلا يُعتبر أي فصيل الآن مشروع سلطة بديلة، ويصدر مواثيقه من دون الإقرار بأن الحق الأصل هو ملك عام لا يجوز التفرد به أو احتكاره على نحو ما فعل النظام خلال أكثر من ستة عقود. من هذه الجهة، ثمة ريبة متزايدة إزاء نوايا الإسلاميين، بخاصة مع تأرجح بياناتهم «تطرفاً واعتدالاً» بحسب المتغيرات السياسية الدولية والمتغيرات في توجهات داعميهم.
الخلاصة المرّة لما وصلت إليه التجربة الإسلامية بعد سنتين من نشاطها السوري هي فقدان الثقة بهم من قبل شريحة متزايدة من عموم الناس، فهم لم يقدّموا المثَل الأخلاقي المرتجى في المناطق التي سيطروا عليها. في مدينة دوما «ريف دمشق»، على سبيل المثال، هاجم السكان مستودعات لفصيل «جيش الإسلام» ليكتشفوا أنها متخمة بالمواد الغذائية في الوقت الذي يعانون فيه ضائقة غذائية خانقة، ذلك بعد أن تعرضت فصائل أخرى لخسائر جسيمة في الأرواح بسبب محاولتها كسر الحصار، والإتيان بالطحين من المطاحن القريبة التي يسيطر عليها النظام. جيش الإسلام، وهو مشارك أساسي في الجبهة الإسلامية العتيدة، لم يقدّم تفسيرات حقيقية لاختطاف سميرة الخليل ورزان زيتونة وناظم ووائل حمادي، ومن ثم اغتيال ناشطيْن، في مدينة دوما التي يسيطر عليها، ولم يتعهد بملاحقة الفاعلين إن لم يكن على صلة بما حصل.
قادة الجبهة الإسلامية موجودون على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتجادلون فيما بينهم ومع الفصائل الإسلامية الأخرى كجبهة النصرة؛ هذا الترف غير متاح للعديد من قادة الفصائل العاملة ميدانياً، وقد يستغرب البعض أن نسبة كبيرة من الأخيرين لا تملك وسائل اتصال فضائي وتستخدم شبكة الاتصالات المحلية المراقبة من قبل النظام، واضطرارها لذلك أدى إلى الإخفاق في بعض المعارك. هذا ليس تفصيلاً صغيراً أو هامشياً، فهو دلالة على حجم التمويل الذي تناله كل جهة؛ التمويل الذي أدى إلى سيطرة الإسلاميين على مناطق واسعة لم يكن لهم جهد في تحريرها، وفي العديد من الحالات لم يتقدموا متراً واحداً خارجها.
إمداد الإسلاميين، على مختلف توجهاتهم وتوجهات داعميهم، بالمال والسلاح هو ما مكّنهم من السيطرة على المناطق المحررة، أي أن هيمنتهم تقوم أولاً على الدعم الخارجي. لذا ليس مستغرباً أن يكون «ميثاق الشرف» الذي أصدروه ملبياً أولاً لمتطلبات الجهات الداعمة، بصرف النظر عن مدى تلبيته للواقع السوري، وليس مستبعداً تالياً أن يتراجعوا عنه إذا ما غيرت الجهة الداعمة تكتيكاتها أو أرادت إرسال رسالة مغايرة، ولو على سبيل الضغط. ثمة تكهنات مفادها أن الإسلاميين أصدروا بيانهم تحت ضغط الشروط التي وضعها «أصدقاء سوريا» لتوفير الدعم لهم، وذلك لتمييز أنفسهم عن الإسلام المتطرف لتنظيم القاعدة،؛ هذا أيضاً تكتيك سبق أن جربه «أصدقاء سوريا» لكنه فشل فشلاً ذريعاً بسبب الدعم «الخجول» لما يُسمى المعارضة المعتدلة.
في الواقع أصبحت الكتائب الإسلامية «المعتدلة» واقعة تحت ضغوط متعددة قد تنهكها، وإذا استثنينا مطالبات التيار المدني السوري بمزيد من الانفتاح والاعتدال فهي واقعة تحت نوعين من الضغط الخارجي. أولهما هو الضغط الدولي الذي يشترط اعتدالاً في خطابها مع هيمنة أكبر لها على الميدان مقابل المجموعات المتشددة، مشكلة الضغط الدولي أنه يشترط جني الثمار قبل تقديم الدعم، أو يقدم دعماً محدوداً جداً مقابل نتائج ملموسة. هذا الأسلوب كان قد أودى سابقاً بهيئة أركان الجيش الحر، لأنه طالبها بما يفوق قدراتها، ومن دون تقوية إمكانياتها فعلاً، الآن أيضاً لا مؤشرات حقيقية على تغير النهج الدولي. بل إن البطء الذي يأتي به الدعم المحدود، مع الضجة الإعلامية الضخمة حوله، تدفع النظام وحلفاؤه في كل مرة إلى المسارعة في تكثيف عملياتهم العسكرية استباقاً لأي تطور فعلي.
من جهة أخرى، في كل مرة يبالغ فيها الإعلام بالحديث عن دعم المعتدلين، تسارع الكتائب المتطرفة إلى مهاجمتهم ضمن فهمها المنطقي لفكرة أن الدعم موجه ضدها بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية ضد النظام. لا يغيب عن القراءة هنا أن المطلوب، كما تصرح القوى الدولية، هو مكافحة التطرف عسكرياً، والإصرار على الحل السياسي مع النظام. ميدانياً، مع التلويح بالدعم الدولي المشروط، تصبح الكتائب المعتدلة بين فكي كماشة من قوات النظام والكتائب المتطرفة. في النتيجة، تخسر الكتائب «المعتدلة» بسبب عدم توفر الإمداد الحقيقي، وتُضطر إلى العودة للتحالف مع جبهة النصرة، وتُضطر أيضاً إلى العودة لتبني خطاب إسلامي متشدد، وحتى إلى تخوين قيادات المعارضة المخدوعة مثلها بالدعم المنتظر.
لكن مشكلة الإسلاميين المعتدلين مع نظرائهم المتطرفين لا تقع في السياسة فحسب، فالمتطرفون يكفّرون تصريحاتهم المعتدلة، وهم أقدر أيديولوجياً على مقارعتهم بالحجة، بخاصة أن بعض قادة المعتدلين أقرب إلى الفهم الإسلامي البسيط، وأحياناً أقرب إلى المتاجرة بالدين واستخدامه وسيلة للحصول على التمويل. في هذا النوع من المعارك يخسر المعتدلون عادة، فهم غير قادرين على الخروج من الأيديولوجيا التي تحكمهم، وهم غير قادرين على ادّعاء تمثيلها واحتكارها على نحو ما يفعل نظراؤهم المتطرفون. على سبيل التعيين، لا يستطيع قادة الجبهة الإسلامية تكفير النصرة، أو حتى داعش، لأن الإسلام المعتدل يتنافى مع فكرة التكفير، لكن النصرة أو داعش تستطيعان تكفير الجبهة الإسلامية لأن التكفير يقع في صلب رؤيتهما للإسلام.
كان أحد منظري داعش سباقاً، منذ أشهر طويلة، عندما أعلن أن المعركة هي على المناطق المحررة، وأن تنظيمه سيجعل الكتائب الأخرى أمام خيارين، فإما الاستسلام لداعش أو الاستسلام للنظام. الآن، بعد كلمة أيمن الظواهري وتعليماته لجبهة النصرة وبعد «ميثاق الشرف» الذي يبدو في جانب مهم منه موجهاً ضد النصرة، سيكون من المنطقي أن تباشر جبهة النصرة عملياتها ضد الجبهة الإسلامية والجيش الحر، في الوقت الذي راح النظام أيضاً يصعد من عملياته ضدهما. إن لم يصل الدعم الدولي الموعود، فأغلب الظن أن التكتيك المتبع هو: لندع المعتدلين والمتطرفين والنظام يستنزفون بعضهم بعضاً. المشكلة في هذا التكتيك أن نتيجته لم تؤدّ يوماً إلى تشجيع وتقوية الاعتدال.
المستقبل