إسلاميّو الربيع العربي والفكرة الوطنية
حسن شامي
يتبدى لكثيرين أن وصول الإسلاميين إلى الحكم في غير بلد عربي، يضع على محك الاختبار الخطوط العريضة لأولويات مألوفة ومتوارثة في الخطاب السياسي والأيديولوجي العربي منذ الخمسينات. وفي طليعة المسائل المطروحة، نجد الفكرة الوطنية وأشكال تعهدها في قوالب وصياغات جديدة، أو يفترض أن تكون جديدة ومختلفة. وتكاثر في الأسابيع الأخيرة الحديث عن احتمالات ومخاوف من أن يتحول الربيع العربي إلى شتاء أو خريف إسلامي، خصوصاً بعد حوادث عنف متفرقة طاولت في البلدان المتبدلة سلطاتها، مؤسسات وهيئات غربية وفئات اجتماعية يفترض أنها داخل النسيج الوطني المستجد، لا على هوامشه.
تستند المخاوف الشائعة في التقارير والتغطيات الإعلامية إلى تقدير مفاده أن الإسلام الحركي بات يلقي أكثر فأكثر بظلاله الكثيفة على حاضر المجتمعات العربية ومستقبلها. ولا يخفي هذا التقدير تعويله على معايير لما ينبغي أن يكون عليه الربيع العربي كي يستحق هذه الصفة هو وفكرته عن بناء وطني يحتكم إلى صناديق الاقتراع.
والحال أن هذا التوصيف يحتاج إلى التدقيق وإعمال النظر. فهو يتعزز من انطباع عريض عن اتساع الفكرة الإسلامية واحتلالها مساحات اجتماعية واسعة، حتى عندما تكون هذه المساحات خارج لعبة السلطة. والمقصود أن رصد العلاقة بين الإسلاميين وأوطانهم وتصوراتهم عن الفكرة الوطنية، ووضعها في منظار واقعي وعقلاني، يتطلب التخفف من الوصفات الإجمالية الجاهزة. ويستدعي هذا «نضالاً» للتحرر من مفاعيل مناظرة مغشوشة صنعتها شبكات نافذة في الغرب تنسب إلى الهوية الإسلامية ما يحلو لها بمقتضى المصالح الاستراتيجية، وبحسب رأس الزبون. ويعني هذا أنه يتوجب تناول كل حالة إسلامية على حدة، وبأكبر مقدار من الاستقلالية في التفكير، أي عبر إعادة الاعتبار إلى السياق التاريخي والسوسيولوجي للتحولات التي شهدها هذا البلد أو ذاك، وليس لقياس درجة ابتعاد أو اقتراب هذه الحركة الإسلامية أو تلك من هوية إسلامية نموذجية أصلية عابرة للأوطان وللتاريخ، سواء وصفت هذه الهوية بمواصفات سلبية أو إيجابية.
العكس، وهو شائع منذ ثلاثة عقود، يقود إلى اعتبار المسلم المصري أو التونسي نسخة طبق الأصل عن المسلم الباكستاني أو الإندونيسي ليس فحسب بسبب الالتزام بنواة واحدة ومشتركة من العقائد والشعائر، بل خصوصاً باعتبار هذه النواة بمثابة المصهر الأكبر لتذويب السياقات المختلفة التي يتموضع فيها الديني في ترسيمة ثقافية وتاريخية وطنية أكثر تعقيداً وتركيباً. الأكيد أن وضع الإسباني والبولندي، ناهيك عن المكسيكي أو النيجيري، في سلة ماهوية واحدة بدعوى اشتراكهم في الكاثوليكية سيعرض صاحب المقولة للسخرية. مع ذلك رأينا قادة أحزاب ورؤساء أوروبيين يبررون رفضهم لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بدعوى وجود قواسم مشتركة بين هذه البلدان لا تتمتع بها تركيا. ولا نعلم ما الوجه المشترك، ثقافياً وتاريخياً، بين اليونان والسويد أو البرتغال مثلاً. لا يعني ذلك أن التأثيرات المتبادلة بين بلدان متباعدة جغرافياً أمر لا دلالة ولا وزن له، بل أن هذه التأثيرات لا تتحصل على قيمتها الحقيقية وحظوظ استمراريتها إلا بالنظر إلى قوة وجاذبية المؤسسات التاريخية والثقافية المتبلّورة وطنياً، في المعنى العريض والإناسي للثقافة.
يقتضي التثبت والتدقيق أن نشير إلى أن الإسلاميين لم يصلوا رسمياً إلى الحكم لا في ليبيا ولا في اليمن. في مصر وصل «الإخوان المسلمون» خلف تسمية منقحة، هي حزب الحرية والعدالة، تحاكي النموذج التركي ولا تتطابق معه. وفي تونس تختبر حركة «النهضة»، وهي في موقع قوي، تجربة التحالف لإدارة الشأن العام مع قوتين علمانيتين تفوق رمزية مخاطبتهما للفئات الوسطى حجم تمثيلهما الفعلي. وتتعرض الحركة لمزاحمة قوى معارضة علمانية مختلطة وتيار سلفي متشدد. وإذا كان المكوّن الإسلامي شديد الحضور في كل هذه البلدان، وفي غيرها، ما يجعل التعاطي معه بطريقة أو بأخرى واجباً سياسياً، فالقوى الإسلامية «الحاكمة» في مصر وتونس تبدو مدعوة أكثر من غيرها، وفي هذين البلدين بالتحديد، لاستنباط صياغة معينة وجديدة بعض الشيء للعلاقة بين الفكرة والبناء الوطنيين وبين المبادئ الأخلاقية الإسلامية. وتستدعي مثل هذه الصياغة إعادة النظر في المقولات الشائعة وتثبيت التمايز بين مفهومي الأمة والجماعة. وكان بعض الفقهاء لامسوا قبل قرون هذه المسألة واستشعروا الحاجة إلى التمييز بين المفهومين واستقلال كل واحد منهما، لكن مسعاهم الواعد هذا لم يستكمل ودفنه الجمود ومنطق العصبيات الحاكمة في لجة عميقة.
قد تحصل الصياغة الإسلامية للفكرة الوطنية في مصر وتونس من دون قرقعة عقائدية وإيديولوجية، أي بطريقة تجريبية لا تخلو من الغموض والالتباس. ولا نستبعد أن ينطوي ذلك على مفاجآت قد لا تفرح المتلهفين إلى الخلاص من قضايا يحسبها بعضهم فائضة عن الوطنيات وينسب لها مركزية كبرى، كقضية فلسطين التي لم تكن أصلاً مركزية على الإطلاق، أو الوحدة العربية أو التحرر من الاستعمار. الفكرة الوطنية هنا ليست سوى لباس وعي زائف وشقي إذ يتمثل الحاضر في صورة تكفير عن ذنوب وأخطاء وضلالات تختصر تاريخنا المعاصر، ويجعل الكيانات الوطنية مكاناً للانكفاء على النفس مع تفويض الأمور إلى أولياء الأمر المفترضين. إنها وطنية تعليمية وإرشادية، أي من دون استحقاقات سياسية. وهذه طريقة للقول إن إغفال المسألة الفلسطينية وبلعها بلعاً شبه قسري، كما يبدو لبعض متذوقي الربيع العربي، لهو أمر مخيف وخطير ليس بالنظر إلى عدالة القضية وموقعها في سياسات المنطقة، بل لأن مثل هذا البلع يعد بانفجارات وتقيؤات قد لا ينجو منها أحد.
لا ينبغي إذاً أن نستغرب دعوة المرشد العام لـ «الإخوان المسلمين» في مصر، محمد بديع، إلى الجهاد لاسترداد القدس بالقوة. فالرجل يتحدث باسم «الجماعة». أما الرئيس محمد مرسي فهو يمثل الأمة المصرية ورهاناتها المركبة، لذا أقال النائب العام بسبب تبرئة المتهمين بموقعة الجمل. وقام بتكريم أنور السادات ليس من باب استئناف وطنية مصرية ضيقة بل لرد التحية إلى من انفتح على الإسلاميين لمحاصرة معارضيه، في ظل استراتيجية أميركية شجعت أيام الحرب الباردة وصول الإسلاميين المتشددين إلى السلطة، كما حصل مع النميري في السودان ومع ضياء الحق في باكستان.
الحياة