صفحات الرأي

إسلام ما بعد الحداثة


حسام عيتاني

ما يجري في تونس ومصر وليبيا، من تقدم التيار السلفي المشهد العام، بات يحتاج إلى قول يتجاوز الشأن السياسي اليومي.

خروج السلفيين إلى الشارع، خروجاً عنيفاً في غالب الأحيان، وفرضهم نماذج سلوك وقيم هيئ لهم أنها تنتسب إلى الإسلام الأصيل، يفيد في رسم صورة المجتمعات العربية المعاصرة أكثر مما يشكل استعادة للدين والدنيا كما عاشهما السلف.

نحن، إذاً، شهود على تطور كبير وعميق في المجتمعات العربية والإسلامية خصوصاً في تلك التي أسقطت الديكتاتوريات «العلمانية الكافرة»، وتبحث الآن عن وجهة سير نحو المستقبل. تتّحد في هذا التطور عناصر عدة تجمعت طوال أعوام مما سمي زمن الاستقرار في مصر وسورية وتونس وغيرها. لقد تغيرت طوال الأعوام الأربعين التركيبة الاجتماعية في هذه البلدان، وزاد عدد السكان زيادات هائلة (خصوصاً في سورية ومصر) وانتقلت أعداد كبيرة من السكان من الأرياف إلى المدن لترفد ظواهر العشوائيات والفقر المزمن ونقص التعليم.

تزامنت هذه التغيرات مع انتهاء محاولات التحديث من فوق التي جربتها أنظمة الناصرية والبعث والمدارس الأيديولوجية الأخرى، بالكوارث المعروفة. بيد أن ذلك لم يوقف ولم يبطئ تأثر المجتمعات العربية بالتغيرات الوافدة إلى أنماط الإنتاج أو بالأحرى رفضه وتبخيسه (تفاقم النزعة الاستهلاكية، الاعتماد على تحويلات المقيمين في الخارج، أموال النفط…الخ) وإلى الثقافة بمعناها الواسع. تغيرت المجتمعات العربية ولم تتغير رؤية الطبقات الحاكمة لها ولا لأساليب ممارسة السلطة عليها.

عند سقوط الديكتاتوريات، بدا أن الإسلام السياسي الحركي هو الأقدر على تولي الحكم من مجموعات الليبراليين واليساريين التي شاركت بفاعلية في الثورات، لأسباب تتصل بحجم الخبرة والعلاقات والإمكانات التي راكمها الإسلاميون طوال عقود من النشاط نصف العلني، من جهة، وببساطة الخطاب الموجه إلى الشرائح الواسعة من المواطنين الذين انحازوا إلى صورة «رجل الخير والبر» مقابل صورة المتعلم والمثقف والناشط السياسي، من جهة ثانية.

لكن الأمر لا يمكن أن ينتهي بهذه البساطة. فالمجتمع بات غير ذاك الذي عمل فيه الإسلاميون التقليديون طويلاً. لقد مرّت عليه خبرات الجماعات الجهادية المسلحة والتيارات السلفية وازداد فقراً وتطلعاً إلى الخلاص يأتي ولو عبر شاشات الفضائيات.

جاءت هنا التيارات السلفية بتركيبتها الشبكية. بتعددية رؤوسها ومرجعياتها (بشعارها الرافض لاحتكار التأويل: «هم رجال ونحن رجال»، وبغض النظر عن الانحراف في استخدام هذه العبارة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة)، بوعودها بالجنة الفورية على الأرض وبالجنة الأبدية في الآخرة. كان هذا الحضور الشبكي المتعدد المرن، مناقضاً تمام التناقض للتركيبة الهرمية الإخوانية، المستوحاة من التنظيم الأوروبي للعمل (أو التنظيم اللينيني للحزب).

إسلام السلفيين، تجاوز الحداثة المهزومة في بلادنا. وما بعد الحداثة ليس مزيداً منها، بل في غالب الأحوال تراجع عنها وأنكار لها. وهنا مصدر الانقضاض في الإعلام والشارع، على الحريات الفردية وعلى مظاهر «التغرب» وعلى كل ما يمت إلى الاستقلال الإبداعي والسياسي بسبب، وتلك الفتاوى المذهلة التي يخرج بها شيوخ الفضائيات.

ومن غير المجدي نقاش صواب أو خطأ ما يقول به هؤلاء الشيوخ، من الناحية الفقهية. ذلك أن أقوال بعضهم تناقض أقوال البعض الآخر، في الوقت الذي يرتفع فيه حاجز عال يحول بين مصادرهم التي يعتمدون عليها في صوغ آرائهم، وبين النقاش الرصين.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى