إشكاليات الديمقراطية
هل يمكن بناء دولة حديثة دون حد أدنى من الديمقراطية وكيف يمكن بناء دولة حديثة بأحزاب دينية أو عقائدية دون أن تشكل المواطنة
والحداثة والديمقراطية جزء أصيل وحقيقي من مشروعها الفكري…
يتساءل العديد عن فشل محاولات التحديث وبناء الدولة منذ محاولات محمد علي باشا مرورا بالتجربة الناصرية وتجربة الجزائر والتجربة العراقية البعثية السابقة…
هل الخلل بنيوي يقع في النسيج الاجتماعي وفي نمط العلاقات الاجتماعية المتأخرة أم هو بسبب الطبيعة العسكرية العنيفة للتجربة السياسية.
المدافعين عن النزعة الشمولية يرون في تجارب ستالين وهتلر وعبد الناصر وصدام حسين دليل نجاح التحديث وبناء الدولة دون الحاجة للديمقراطية التي يرونها بدعة برجوازية هدفها تأبيد النظام الرأسمالي المتوحش وبقاء الطبقات المستغِلة في موقعها عن طريق التحكم باللعبة الديمقراطية ..
أما المدافعون عن الديمقراطية كخيار إنساني تحديثي وعقلاني فيرون في عدم استمرارية تلك التجارب وسقوطها المريع ردا كافيا على مؤيديها ..
ما هي الديمقراطية؟ وما هي ضرورتها ؟
سأبدأ من المفهوم ومن جذره اللغوي اليوناني (ديمقراطيس)أي حكم الشعب او إشراك الشعب في الحكم وهذا هو الأكثر صوابا حيث تشير الوقائع التاريخية الى ان الحروب التي مرت على أثينا قد أثرت على تركيب المجتمع الأثيني حيث خسرت طبقة الفرسان جزء كبيرا من بنيتها في تلك الحروب الطويلة مما عزز صعود العامة الى قيادات الجيش (الفرسان )أي طبقة النبلاء الحاكمة ومع تزايدهم في المجتمع وما رافقه من تغيرات وتحولات اجتماعية وتبدل في مراكز القوى مما دفع باتجاه إشراك هذه الفئات الصاعدة في إدارة شؤون الدولة وتسيير أمورها وسمي هذا الشكل بالنمط الديمقراطي حيث الشعب ( الأحرار عدا النساء والأطفال وعدا العبيد)
يقوم بالاقتراع المباشر. حيث أن الشعب كمفهوم لا يشمل طبقات وفئات الشعب بل ينحصر بمن يملك أرضا وعبيد ولديه أسرة وأولاد.من هنا ارتباط مفهوم الحرية بالملكية .فمن ليس له مسكن ولا يملك قوت يومه لايمكن أن يكون حرا- حتى في المجتمع الذي يسوده نظام ديمقراطي الآن -…
والديمقراطية مفهوم تاريخي غير ناجز ومتغير حسب الزمن والمكان ويتم الإضافة والاغتناء حسب تجارب الشعوب لذلك تتعدد دلالاته ويكتسب مضامين مختلفة حسب درجة تطور المجتمع وتغير تركيبته.
ومن هنا أيضا يمكن القول أن الشعب كمفهوم سياسي يحمل معانٍ شتى حسب التطور التاريخي للمجتمع المحكوم بجملة تناقضات في تركيبته الطبقية وتكوينه الأثني والطائفي
إن محصلة القوى الفاعلة والمؤثرة في حركة المجتمع تحدد مساره ودرجة تطوره والشكل ذي يسود لفترة ريثما يتم كسر التوازن الاجتماعي مجددا وهكذا …..
ففي أوربا وتحديدا في فرنسا استطاعت الطبقة البرجوازية (سكان المدن) أن تقود تحالفا من كافة الطبقات الشعبية لإسقاط النظام الإقطاعي المتحالف مع الكنيسة .
إن تمدد سلطة المؤسسات الدينية لتشمل كافة جوانب الحياة والفساد الذي كان يترعرع في جوانب الدولة القائمة على تحالف السلطة السياسية ورجال الدين وانغماسهما في العنف والفساد دفع العديد من المفكرين النهضويين ليرى في فصل هذا” التحالف المقدس” ضرورة لقيام دولة حديثة ..وكان الطريق لقيام مجتمع حديث يتحدد بطبيعة التناقض القائم بين القوى الاجتماعية المهيمنة سياسيا ومسيطرة اقتصاديا والتي بدأت بالانهيار أمام صعود الطبقة البرجوازية النشطة في مجالات التجارة والصناعة . والشكل العنيف الذي حدث به التغيير يرتبط بشكل مقاومة الطبقات التي تمسك بزمام الثروة والجاه للتغيير الثوري الذي قادته الطبقات الفقيرة والمعدومة بقيادة البرجوازية الثورية الصاعدة متسلحة بوعي فكري وفلسفي تنويري…
الشعارات التي طرحتها الثورة الفرنسية( حرية- مساواة- إخاء ) أحدثت تغيرات كبرى في كل أوربا ودفعت الطبقات الحاكمة في دول أوربا الى إجراء بعض التغيرات الاجتماعية والسياسية تخوفا من تأثيرات تلك الثورة وامتدادها مستقبلا الى أراضيها.
كما امتد تأثيرها الى البلدان العربية عن طريق البعثات التعليمية والعلمية وبرزت في مناحي الحياة الأدبية والسياسية خصوصا في مصر ولبنان وسوريا ..
إن الديمقراطية شكل عقلاني لإدارة وتوجيه المصالح المتناقضة في المجتمع .وهي شكل حضاري لتحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي فيه. ويتم ذلك من خلال مؤسسات الدولة ويعتبر النظام الانتخابي الطريقة التي تتم عبرها التغيرات الاجتماعية ذات الطبيعة الاقتصادية- السياسية سلميا …
في المجتمعات الأسيوية والأفريقية التي تعيش على هامش النظام الرأسمالي والتي تم تطويعها لتقوم بدور وظيفي في خدمة المراكز الرأسمالية ما تزال العديد منها تعاني من بنى اقتصادية واجتماعية قديمة وموروث ثقافي ديني مذهبي لم تأخذ بعد بقيم المواطنة و لم تؤسس بها دول حديثة رغم بعض مظاهر الرفاهية الشكلية والشعارات السياسية البراقة التي تختبئ خلفها بنية سياسية مافيوية رعوية قبلية أو طائفية
وتسيطر الصراعات الفئوية والمذهبية في العمق بينما تطفو مظاهر الوحدة الشكلية على سطحها والذي يمكن أن ينهار تحت تأثير أي مؤثر خارجي أو داخلي عنيف…
ان الانقسامات العمودية الطائفية والعرقية والقبلية وانعكاسها في منظومة القيم والثقافة السائدة في المجتمع. ينعكس بشكل جلي حينا وخفي أحيانا على بنية الدولة وبنية الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية ويحولها من تنظيمات حديثة الى هياكل فارغة تنخرها المذهبية والطائفية المقيتة …
هذه المجتمعات تعيش ازدواجية بنيوية ناتجة عن بطء التحولات الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية نحو الحداثة وغياب مشروع فكري حضاري لا يعاني من الجمود العقائدي و الدوغمائية…
وتعاني من ارتباط وتبعية تطورها بحاجات ومصالح الرأسمالية العالمية أكثر من ارتباطها بمشروع نهضوي داخلي
وبما أن السياسة هي اقتصاد مكثف في أحد وجوهها فان العلاقات الاقتصادية –الاجتماعية التي تسود هذه المجتمعات تقود لظهور الطائفية السياسية والقبلية والمذهبية في بنية النظام السياسي السائد بغض النظر عن الأيديولوجية السائدة …
بل أقول ان المشروع الديمقراطي في هكذا مجتمعات لابد ان يعاني في مخاضه الطويل من أثر ماء الولادة الطائفي أو العرقي..نظرا لهشاشة الحامل الاجتماعي للخيار الديمقراطي العقلاني …
إلا أن التطور الاجتماعي لابد أن يفرز القوى المؤثرة في الساحة السياسية إلى قوى سياسية تقليدية وقوى حداثية ويبلور مشروع وطني ديمقراطي لتلتف حوله القوى الاجتماعية صحابة المصلحة الحقيقية في بناء دولة وطنية لمختلف المكونات الاجتماعية والطبقية قائمة على المواطنة والديمقراطية.
عبد الكريم فطوم
http://kebreet.net/