صفحات الرأي

إشكالية الحريّة في الثورات العربية


ماجد كيالي

قامت الثورات الشعبية العربية من اجل الحرية والكرامة والعدالة، لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو أن التخلّص من النظم الاستبدادية شيء وتحقيق المتوخّى شيء آخر. هذا يعني أن النظم التي شكّلت حاجزاً صلباً أمام تطوّر الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي قد ترحل، لكنه يعني، أيضاً، أن الأحوال لن تتغيّر بسهولة أو من دون تعقيدات ومعوقات. وفي الواقع فإن عمليات التغيير، في الدولة والمجتمع، قد تحتاج إلى سنوات، وقد تتعرّض لنوع من مقاومة ومعاندة من قوى النظام القديم، ومن شبكة العلاقات والبنى التي نسجها ورسّخها طوال العقود الماضية، كما من قوّة العادات والثقافات السلبية الكامنة في المجتمع. لكن كل ذلك لا يقلّل من ضرورة الثورة وشرعيتها وعدالتها، باعتبارها الطريق الاضطراري الوحيد للذهاب نحو الإصلاح والتغيير ونحو المستقبل ومحاكاة العالم.

فوق كل ذلك فقد بيّنت التجربة بأن الثورات في العالم العربي تكابد من مشكلة أساسية ستؤثّر كثيراً على مساراتها، ومستقبلها، وهي المتعلقة بالإجابة على معنى الحرية، وهي الشعار الجامع لها وللقوى المنخرطة فيها، لاسيما أن هذه القوى (العلمانية أو الدينية أو الوطنية أو اليسارية) كشفت عن ضعف تمثلها لهذا المعنى في إدراكاتها، وفي سلوكياتها السياسية؛ وذلك على رغم ميلها نحو الديموقراطية.

هكذا بتنا في مواجهة مسارين مختلفين ومتمايزين الأول، يجري فيه التشديد على الديموقراطية، وتشكيل الأحزاب والانتخابات، وتداول السلطة والاحتكام لإرادة الشعب باعتباره مصدرا للسلطة، والثاني يتم فيه الاشتراط على معنى الحرية وحدودها، بالنسبة للمواطن الفرد، بدعوى خضوع الأقليّة للأكثرية، وبدعوى الحفاظ على الخصوصيات والعصبيات الهوياتية (الدينية أو الإثنية)، لكأن الثورات تناقض نفسها، أو تقيد نفسها.

فالتيار اليساري (الماركسي)، مثلاً، يرى المجتمع تكويناً منمّطا من طبقات عدّة، فقط، لا باعتباره يتألف من مواطنين أحرار، مختلفين ومتعددين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطبقية، على أساس أن الانتماء الطبقي يحدّد الوعي الطبقي، هكذا بشكل مسبق ومن دون قراءة للواقع المتعيّن ومن دون دراسة لمعنى الانقسامات الطبقية في مجتمعات تفتقر إلى ذلك عموماً. فضلاً عن ذلك فإن هذا التيار يعتقد بأن دوره التاريخي يتحدّد في القضاء على الملكية الخاصّة وإقامة المجتمع الاشتراكي، بغض النظر عن ملائمة الظروف والمعطيات والحاجات إلى ذلك من عدمه. وكنا شهدنا النتائج الكارثية للتأميمات الحاصلة في مصر وسورية، على سبيل المثال، والتي قوّضت البني الجنينية للبورجوازية الصناعية (الوطنية) في مصر وسورية، في حين نشأ بدلاً عنها نوع من بورجوازية طفيلية ناشئة في حضن الدولة التأميمية ذاتها؛ التي التهمت السلطة الدولة والمجتمع والموارد.

ولايبدو التيار الإسلامي من جهته أحسن حالاً فهو بدوره يقسّم المجتمع على أساس ديني إلى مسلمين وغير مسلمين ما يقوّض مفهوم الهويّة الوطنية والمواطنة المدنية والوحدة المجتمعية، التي تفترض المجتمع تعبيراً عن مجموع المواطنين الأحرار المتساوين أمام القانون وإزاء الدولة. وهذا التيار يعتقد بأن حصوله على أكثرية في الانتخابات (كما في مصر مثلاً)، يخوّله اخذ الدولة والمجتمع حيث يريد وفرض الدستور والتشريعات التي تتلاءم مع عقيدته الدينية على الدولة الدنيوية (مع ضمان حق “الملل” الأخرى في فرض شرائعها على أتباعها)، وهذا ينطبق على مناحي التعليم والإعلام.

العلمانيون، أيضاً، لايشذّون كثيراً عن هذه القاعدة فلديهم تقسيماتهم ومخاوفهم وهواجسهم، رغم الاعتقاد الرائج أو المفترض بأنهم أقرب ميلاً إلى حرية التفكير والتعبير. ففي حيّز الممارسة يتكشف كثير من هؤلاء، مثلهم مثل قطاعات من اليساريين والمتدينين، عن مستبدين من نوع آخر، إذ يستكثرون على غيرهم الحرية وحتّى الديموقراطية، وحتى أن بعضهم يصل حدّ استمراء الاستبداد السياسي المغلّف بإطارات علمانية، كونه يضمن نمط عيشهم، على الديموقراطية التي قد تحرمهم من ذلك (كما يحصل مع كيانات “يسارية” اليوم). ومعلوم أن العلمانية تختلف عن الإلحاد، وهي سليلة ثورات الإصلاح الديني والعقلانية والحد من سلطة رجال الدين ومن تدخلهم في شؤون الدنيا، بإعطاء مالله لله وما لقيصر لقيصر، وعدم تسييس الدين أو تديين السياسة.

قصارى القول نحن هنا إزاء إشكالية كبيرة وعميقة بشأن معنى الحرية في الثورات العربية تنبثق من عدّة مستويات، بعضها سياسي نابع عن الغياب التاريخي للمشاركة السياسية ولتقاليد العمل السياسي والحزبي، وعن الخضوع لأنظمة استبدادية لقرون. وبعضها اجتماعي ـ اقتصادي ناجم عن ضعف التمدين وعن تخلّف الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية. وبعضها ناجم عن سياسات “الهوية” في هذه المنطقة، التي تعمل على ترسيخ الانقسامات العمودية (الدينية والاثنية)، وإضعاف مسارات الاندماج المجتمعي في البلدان العربية، وتغييب المواطن الفرد.

ثمة أيضاً أن الثورات الحاصلة هي الأولى من نوعها في تاريخ المجتمعات العربية، وأن هذه المجتمعات تتوخّى الدخول مباشرة في الثورة الديموقراطية، على خلاف التجربة الأوروبية، أي من دون المرور في ثورة العلمنة وتحرير العقل، ومن دون الدخول في الثورات الليبرالية التي أدّت إلى تحرير الفرد بوصفه قيمة عليا وإلى اعتبار المواطن الوحدة الأساسية في المجتمع، بعيدا عن أية تنمطيات أو انتماءات أخرى (على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو الوضع الطبقي)؛ وهما أمرين لايبدو أن بمقدور الثورات الراهنة تحقيقهما في ظل هيمنة سياسات الهوية والتنميطات الجمعية العمودية.

وإذا كان يمكن القول بأن الثورات التحريرية (“الليبرالية”) في أوروبا استوعبت أو هضمت العلمانية، أو هذبتها، فإن فكرتي الحرية والمواطنة الفردية/المدنية لم يكن بالإمكان هضمهما أو تجاوزهما في الديموقراطية، التي تتعلق بكيفية تنظيم العلاقات وإدارتها في المجتمع وبين المجتمع والدولة، إلا من خلال الديموقراطية الدستورية، أو من خلال ما بات يعرف بالديمقراطية الليبرالية، لأن الحمولات الليبرالية هي التي ترشّد الديموقراطية وتضبطها بحيث لاتتحوّل إلى نوع جديد من استبداد أكثرية، برلمانية أو تصويتية (دينية أو اثنية أو عرقية) بأقلية، وبحيث يتم ضمان حريات المواطنين الأفراد، ومساواتهم أمام القانون بصفتهم المدنية.

هذا يعني أن الديموقراطية في البلدان العربية ستبقى ناقصة، وقد تنطوي على ما يثير المخاوف، إذا لم تتطعّم بحمولات ليبرالية، تتعلق بالحرية والمواطنة وإعلاء شأن الإنسان الفرد، وضمن ذلك ضمان حقه في الاختيار والمساواة وتكافؤ الفرص.

طبعاً، هذا ليس مديحا أو إعلاء لشأن التيارات التحريرية (“الليبرالية”) التي تناضل من اجل الحرية والمواطنة المدنية، لأن هذه التيارات ثمة فيها أيضاً من ينتقص من قيمة الديموقراطية أو من قيمة العدالة الاجتماعية؛ لكن هذا يحتاج إلى نقاش أخر.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى