إضرام النار في النفس .. من بوعزيزي إلى رهبان التيّبيت
مشهـد اليـأس الـذي تخشـاه الـدكتـاتـوريـات
ريمي اوردان
الثّورة التّونسيّة انفجرت حين أضرم محمّد بوعزيزي النّار في نفسه يوم 17 كانون الأوّل ديسمبر 2010، وحذا الكثير من الشّبّان حذوه في العالم العربيّ وفي منطقة التّيبيت.
نادرًا ما خلّف انتحارٌ أثرًا سياسيًّا على هذا الجانب من الأهمّيّة. فمنذ أن أقدم محمّد بوعزيزي، البائع التّونسيّ المتجوّل، ابن السّتّة والعشرين ربيعًا، على إضرام النّار في نفسه أمام مقرّ ولاية سيدي بوزيد يوم 17 كانون الأوّل ديسمبر 2010، احتجاجًا على حجز الشّرطة عربته، تنتفض الشّعوب العربيّة على أنظمتها الدّيكتاتوريّة الّتي تحرمها حقوقها السّياسيّة والاجتماعيّة. وتجتاح العالم موجة هائلة من حرق النّفس في العالم العربيّ من جهة، ومنطقة التّيبيت الّتي تحتلّها الصّين.
تُعيد هذه الظّاهرة إلى الأذهان موجتين مؤثّرتين من ستّينات القرن المنصرم، الأولى في فييتنام حين أضرم الرّاهب البوذيّ، ثيتش كوانغ دوك، النّار في نفسه عام 1963، ردًّا على الاضطهاد الّذي تعرّض له البوذيّون على يد السّلطة الكاثوليكيّة الموالية للولايات المتّحدة، والثّانية بين صفوف الطّلاّب في براغ، حين أحرق جان والاش نفسه عام 1969 احتجاجًا على اجتياح القوّات السّوفياتيّة بلاده.
يرقى إضرام النّار في النّفس إلى القرون الوسطى في الصّين البوذيّة. واكتسبت هذه الظّاهرة زخمًا قويًّا في الهند آنذاك، بين البوذيّين والهندوسيّين للتّعبير عن التّقوى، والتّخلّي عن الذّات، والاحتجاج السّياسيّ. وامتدّت هذه الظّاهرة على مرّ العصور لتشمل معتنقي الأديان الأخرى، إذ انتشرت بين الفلاّحين الرّوسيّين في فترة انقسام الكنيسة الرّوسيّة الأرثوذكسيّة، وبين الآباء اليسوعيّين الفرنسيّين في القرن السّابع عشر. لم يكن هدف هؤلاء الآباء الموت، إنّما مشاركة يسوع آلامه على الصّليب.
وفي القرن العشرين، ارتبط حرق الذّات بشكلٍ أساسيّ بالاحتجاج السّياسيّ، في كلٍّ من فييتنام، وأوروبّا الشّرقيّة (لا سيّما في تشيكوسلوفاكيا، وبولونيا، وهنغاريا، ورومانيا، والاتّحاد السّوفياتيّ) والهند، والولايات المتّحدة في أوساط معارضي الحرب على فييتنام، وفي تايوان، وإيران، وتركيا، وإيطاليا، وكوريا الجنوبيّة وباكستان.
يعتبر، عالم الأنثروبولوجيا، آلان بيرتو، المختصّ في ظواهر الشّغب، أنّ «إضرام النّار في النّفس يحدث حين يتعذّر الكلام، ويستحيل الحوار، على غرار أعمال الشّغب. فحرق النّفس هو فعل قطيعة، ذلك أنّ الثّائر يُعرّض نفسه للخطر بدون النّظر إلى البعد الاستراتيجيّ عمومًا، لأنّ فرص نجاح هذا الفعل في إحداث أيّ تغيير على الأرض شبه معدومة، غير أنّ حالة بوعزيزي شذّت عن القاعدة، وأشعلت الثّورة التّونسيّة.»
في العالم الإسلاميّ اليوم، طغت صورة الإستشهاديّ الّذي ينتحر حرقًا على الاستشهاديّ التّقليديّ المستعدّ للموت تحت نيران العدوّ من جهة، وعلى الاستشهاديّ الانتحاريّ القاتل أو «الكاميكازيّ». ويعتبر فرهد خوسروخافار، عالم الاجتماع الإيرانيّ الحاصل على الجنسيّة الفرنسيّة، ومدير معهد الدّراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة، أنّ في «حرق النّفس خروجٌ عن نموذج الإسشهاديّ-القاتِل، لا سيّما أنّ صورة الاستشهاديّ بمعناه «الإسلاميّ» كانت غائبة عن الثّورات العربيّة.»
أجرى خوسروخافار دراسة معمّقة حول النّموذجين الاستشهاديّين التّقليديّين، واستنتج أنّ «استشهاديّين كثرا عانقوا الموت من أجل ولوج الجنّة مثل الباسيج، وهي قوّات التّعبئة الشّعبيّة الإيرانيّة إبّان الحرب العراقيّة الإيرانيّة، فيما اختار استشهاديّون آخرون، كعناصر تنظيم القاعدة، الموت كي يقضوا على أعدائهم الكفّار والمسلمين الّذين «خانوا» الإسلام، وكي يعبّر موتهم عن تفوّقهم، تمامًا كما حدث في هجمات 11 أيلول سبتمبر مثلاً. هذا تجسيد حقيقيّ للكره الشّديد للآخر ولاستحالة تقديم أيّ تنازلات.» ويُضيف العالم الاجتماعيّ أنّ «ربيع الثّورات العربيّة أفضى إلى زوال نموذج الاستشهاديّ القاتل. ففي حين ارتكزت العقيدة القتاليّة الإسلاميّة على شرعيّة قتل العدوّ، اعتمدت التّحرّكات الاحتجاجيّة هذه السّنة، عمومًا، سياسة غير عنفيّة. أمّا الأنظمة الحاكمة، فهي الّتي لجأت إلى القتل والتّرهيب.»
بلغ عدد الأشخاص الّذين قرّروا الانتحار حرقًا على هذا النّحو المؤثّر العشرات على الأقلّ منذ انفجار الثّورات العربيّة، وذلك في تونس والجزائر مرورًا بمصر ووصولاً إلى موريتانيا وعُمان. ويُشير برونو إتيين، عالم اجتماع ومدير المرصد الدّينيّ، في كتابه الّذي يحمل عنوان «Les Combattants suicidaires» («الإنتحاريّون») إلى أنّ الإسلام يرفض في المبدأ هذه الممارسة: «اللّه يهب الحياة، وهي مقدّسة، ويستعيدها متى يشاء»، ويرد هذا في الآية القرآنيّة رقم 145 من سورة آل عمران: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً»؛ فقتل النّفس حرام.» غير أنّ الدّراسة الّتي أعدّها برونو إتيين حول الإنتحاريّين الإسلاميّين أفضت إلى أنّ «المسألة أكثر تعقيدًا ودقّة وباب الفقه واسع. فالبعض يسعى مثلاً إلى استعجال الموت كي يحلّ ملكوت اللّه».
إنّ الفقه الإسلاميّ لم يتناول مسألة الّذين ينتحرون حرقًا بالقدر الّّذي تناول فيه الإستشهاديّين الإنتحاريّين. ويرى فرهد خوسروخافار أنّ فعل بوعزيزي «يحمل في ثناياه بُعدًا إنتحاريًّا يُضاف إلى مزيج اليأس والتّحدّي، إذ قتل نفسه عوضًا عن الحاكم، غير أنّه ارتكب هذا الفعل في السّاحة العامّة أمام مبنى الولاية. لم يقتل سوى نفسه، لكن على مرأى من شهود عيان، متجاوزًا بذلك الانتحار العاديّ».
ويُضيف خوسروخافار قائلاً: «إذا كان بوعزيزي ينتمي إلى التّيّار الإسلاميّ التّقليديّ المتشدّد، لعَلِمَ أنّه يستحقّ الجحيم لإضرامه النّار في نفسه. لكنّ سكّان سيدي بوزيد تَعاطوا مع الحدث على أنّه حدث اجتماعيّ وليس كحدثٍ يتنافى وسُنّة الإسلام. هذا وقد أُضفي الطّابع الإجتماعيّ على التّضحية الّتي قدّمها بوعزيزي عبر إحداث صلة وهميّة ما بين حرق النّفس وسقوط الطّاغية وإرساء الدّيموقراطيّة في تونس». ويُشير العالم الاجتماعيّ إلى أنّ «بعض علماء الإسلام السّعوديّين احتجّ على ما أقدم عليه بوعزيزي، غير أنّ الشّعوب العربيّة أينما كان اعتبرته ثائرًا وبطلاً.»
ويعتبر جان ـ بيير فيليو، المؤرّخ الفرنسيّ المتخصّص في الدّين الإسلاميّ، أنّ «الإسلام تبنّى فعل بوعزيزي الّذي غلب عليه الطّابع العلمانيّ، فغدا عمليّة استشهاديّة وليس مجرّد عمليّة انتحاريّة، وتحوّل هو من مجرّد انتحاريّ إلى استشهاديّ، مكتسبًا بذلك شرعيّة دينيّة». ويعتقد فيليو أيضًا أنّ حرق النّفس «الّذي هو سلاح الفقير والسّلاح المطلق الّذي يقف النّظام أمامه مكتوف الأيدي،» مرتبطٌ «بقرار رفض اللّجوء إلى العنف»، مشيرًا إلى أنّ «السّياسات غير العنفيّة صعبة جدًّا بحيث يُخفق البعض فيها على المدى الطّويل.»
على خلاف بوعزيزي، لم يحظَ بقية الاستشهاديّين الّذين أحرقوا أنفسهم باهتمامٍ كبير. وحتّى في مصر، حيث شكّل المجتمع أرضًا خصبة للوقفات الإحتجاجيّة، كان لا بدّ من أن يتعرّض خالد سعيد للتّعذيب والقتل على يد الشّرطة حتّى يُجيّش الرّأي العامّ المصريّ ضدّ نظام مبارك، بعدما أضرم عدد من الشّبّان اليائسين النّار في أنفسهم سُدًى. لذا، يعتبر خوسروخافار أنّ الاستثناء شكّل في هذه الحالة كلّ الفرق.»
ومع ذلك، قد يُحدث التّكرار كلّ الفرق في التّيبيت الّذي يشهد موجة غير مسبوقة من عمليّات حرق النّفس منذ شهر آذار مارس 2011، وذلك بعد حادثة واحدة عام 2009، إذ بلغ عدد الرّهبان والرّاهبات الّذين أضرموا النّار في أنفسهم أحد عشر شخصًا.
ويرى روبرت بارنيت من جهته، وهو أستاذ بريطانيّ يدرَس مادّة تختصّ بشؤون التّيبيت في جامعة كولوكبيا في نيويورك، أنّ حرق النّفس يمثّل تهديدًا كبيرًا للصّين، باعتبار أنّ الانتحار العلنيّ عمل نادرًا ما يحصل في التّيبيت، الأمر الّذي قد ينذر بأنّ الأوضاع تتردّى في الأديرة البوذيّة، ما يدفع الرّهبان إلى اتّخاذ إجراءات يائسة…».
إنّ نيكولاس بيكيلين، المحقّق المختصّ في شؤون التّيبيت لدى منظّمة «هيومن رايتس ووتش» Human Rights Watch غير الحكوميّة، يرى في هذه العمليّات الّتي يشهدها التّيبيت «ظاهرة تفلت من قبضة الصّين من جهة، ومن السّلطتين السّياسيّة والدّينيّة في التّيبيت.» وعلى الرّغم من أنّ الدّيانة البوذيّة لا تشجّع على الانتحار، فقد رفض الدّالاي – لاما مؤخّرًا مطالبة بيكين له بإدانة عمليّات حرق النّفس، علمًا أنّه عارض في السّابق الإضراب عن الطّعام. ويُضيف نيكولاس بيكيلين قائلاً: «لم يرضخ الدّالاي – لاما لضغوط الصّين، بل خصّص كلمة لتكريم الضّحايا، لأنّه يعلم تمامًا أنّ الرّهبان الشّباب يشكّلون أداة الضّغط على الصّين».
إنّ موجة الانتحار عبر حرق النّفس في التّيبيت، الّتي بدأت بعد ثلاثة أشهر على إضرام بوعزيزي النّار في نفسه، ومباشرة بعد «نجاح» ثورتَي تونس ومصر، تدفعنا إلى التّساؤل حول العلاقة الّتي تربط ما بين ظاهرتَي حرق النّفس في البلاد العربيّة من جهة والتّيبيت من جهة أخرى. لكنّ الرّقابة المفروضة على وسائل الإعلام في الصّين تمنعنا من فهم طبيعة هذه العلاقة.
ويروي نيكولاس بيكيلين قائلاً: «لا نعرف حتّى إن كان هؤلاء الرّهبان الشّباب على علمٍ بما يدور في عالمنا اليوم». ويقول روبرت بارنيت: «يبدو جليًّا أنّ إذاعتَيْ «فويس أوف أميركا» Voice of America و«إذاعة آسيا الحرّة» Radio Free Asia، المموّلتين من الولايات المتّحدة واللّتين تبثّان برامج ناطقة باللّغة التّيبيتيّة، مسموعتان كثيرًا في التّيبيت، غير أنّهما توليان أهمّيّة كبرى لمسألتي الدّيموقراطيّة والحرّيّات، على حساب مسألة حرق النّفس بين الرّهبان».
إنّ فكرة تحويل اليأس الفرديّ إلى عمليّة عظيمة تصبّ في خدمة جماعة أو قضيّة ما، تحظى راهنًا بشعبيّة كبيرة على الرّغم ممّا تثيره من رعب في النّفوس، وما يلفّها من غموض… تجدر الإشارة إلى أنّ الأنظمة القامعة في البلاد العربيّة وفي الصّين تهابها، بقدر ما تهاب الثّورات المنظّمة…
عن «لوموند» الفرنسية
ترجمة أ.ح
السفير