إطلال المشتاق أو «غريب على الخليج»
سنان انطون
يتسلل التاريخ إلى الجغرافيا المنبسطة على الشاشة الصغيرة أمامي على متن الطائرة التي أسرَتْ بي من برلين إلى أبو ظبي. أو لعلي أنا الذي أبلّل الخارطة الضوئية بأرقي وكوابيسي، فيستيقظ التاريخ ويهتف بالأحمر القاني، مذكّراً بجبروته. فهذه الأسماء، ذات الرنين الموسيقيّ، مثل «ماردين»، التي تقع اليوم في تركيا، تحيلني إلى حكايات سمعتها عن هجرة أجداد جيراننا منها إلى الموصل في بدايات القرن الماضي. ثم انتقالهم بعدها، بعقود، إلى بغداد. والآن صار للأحفاد حكاياتهم أيضاً. يستعيدون فيها هجرتهم بعيداً عن سماء العراق وأرضه إلى كندا. تاريخ يلعب بالبشر ويبعثرهم كأنه يلقي بالنرد على الخرائط.
أغفو لدقائق ثم أستيقظ بالقرب من تلعفر التي تردد اسمها كثيراً في الأخبار في السنين الأخيرة، هي وأخواتها من المدن التي يعاودها الموت المجاني. ألتقط هاتفي المحمول لأصور مسرى الطائرة على الشاشة فوق العراق. يراقبني راكب يجلس في مقعد قريب بريبة، ظانّاً أنني مجنون. هذه أول مرة أقطع فيها العراق من شماله إلى جنوبه. أول مرة أقطع فيها العراق بأكمله دون أن يوقفني أحد أو يسألني عن وجهتي. العراق كله، بحريّة مطلقة، كطائر. لكنّني طائر في قفص، مقيّد بحزام الأمان. لن تمر الطائرة فوق بغداد التي سأزورها بعد أسبوع لأول مرة منذ عقد. تمضي بمحاذاة الحدود العراقية – الإيرانية التي مات حولها، ومن أجلها، مئات الآلاف في حرب عبثية. أسماء المدن تضئ. الليل والمسافة يضفيان على المشهد جمالاً وانسيابية لا وجود لهما في النهارات البائسة. تبدو المدن، من شباك الطائرة، حفنات من الجواهر المبعثرة تنقّط الظلام. تنام الطوائف والملل في الليل فيتدثّر البلد كلّه بظلام واحد. وأنام أنا، أيضاً، بعد المرور بالبصرة التي، يا لحسرتي، لم أزرها أبداً. يهدهدني بدر «على الخليج جلس الغريب، يسرّب البصر المحيّر في الخليج.»
2
في الطريق من أبو ظبي إلى بغداد أرى من الطائرة بحيرة، أظن أنها الرزازة، تفترش الأرض. ثم ألمح دجلة الذي بدا وكأنه يتردد في الخروج من بغداد (سأحوّر هذه الصورة فيما بعد، فيبدو لي أنه ربما يرتبك وهو يسرع في الهرب منها). أحاول أن أحدّد موقع منطقتنا وبيتنا بحسب المنحنى جنوب بغداد. لست متأكدّاً. يرفرف القلب حين يقول صوتٌ ما «أهلاً بكم في بغداد.»
تستقبلنا الفوضى منذ أول لحظة وعند باب الطائرة. وبعدها الألوان الباهتة والتقادم وغياب التنظيم في مطار ينتمي إلى بلد من بلدان العالم الرابع لا بلد يطوف على الكنوز. في السيارة التي تقل المسافرين إلى نقطة استقبالهم قرب تمثال عبّاس بن فرناس تجلس أستاذة مصرية، مدعوّة إلى مؤتمر «أكاديمي». تقول إنّها متخصّصة في الأدب الحديث. لم أسمع أو أقرأ اسمها من قبل. عندما تُسْأل عن الأدب العراقي الحديث تقول إنها تعرف شعر نازك الملائكة!
على الأرض، وتحت الشمس، تنعكس الآية. فالشوارع تختنق بالزحام وبالسيطرات. لافتات الدعايات الانتخابية تطعن الأرصفة وتهاجم الأبصار وهي تعد بالفردوس الأرضي. الفردوس السماوي يعد به، ضمناً، الآخرون، الأكثر قداسة، الذين احتلوا أماكنهم على الجداريات.
«محمد رمز وحدتنا» هو أحد الشعارات الذي رأيته في كل مكان. شعار يجمع ويفرّق ويقصي ببساطة وبلاغة. غابة من أسماء الرموز والشهداء والأحزاب والتنظيمات والائتلافات. . . والمفردة الأقل حضوراً هي «العراق.»
3
ما معنى أن تعود إلى مدينتك من دون أن تعود إلى بيتك ؟ تنزل في فندق كأي غريب، أو كسائح عابر. لعلها الدمغة الرسمية التي تؤكد، أخيراً، بما لا يقبل الشك، وبقسوة باردة، الاغتراب الكلّي. بكل ما يحمله من خسارات… ومن امتيازات أيضاً! فالبيت الذي ولدت فيه، وعشت فيه ثلاثاً وعشرين سنة، نصف عمري، بيع عام ٢٠٠٨ بعد أن اضطر آخر فرد في العائلة إلى الهجرة. لا أعرف الذين يسكنون فيه الآن. ترى من ينام في الغرفة التي كانت غرفتي؟ هل تنام الحمائم عند حافّة الشبّاك كما كانت تفعل؟ أم أنّها هربت هي الأخرى؟
هناك الآلاف ممن هجّروا بعنف من بيوتهم من دون أن يتمكنوا حتى من بيعها.
نفشل دائماً في مقاومة الحنين ونقع، مهما حصنّا أنفسنا، في شراك الذاكرة الانتقائية. لا بأس. لن تؤلم هذه الطقوس أحداً. لن يتألم أحد سواي أنا!
كان البيت أولى المحطات في جولة التفقّد. ظننت أنني تهت في البداية. لكنّني تعرفت على الشارع الذي كنت أقطعه في طريق العودة يوميّاً من المدرسة. اختفت الأشجار الضخمة التي كانت على جانبي قناة الجيش كليّاً. والقناة نفسها جفّت وامتلأت بالمياه الآسنة. أتعرّف على «جسر الأمين» الذي سمّي باسم حيّي الأمين الأول والثاني اللذين كان يربط بينهما. في الثمانينيات تم تغيير الاسم إلى «حي الخليج». بعد الجسر بقليل نجد مدخلاً إلى المنطقة. تبطئ حركة السير للمرور بالسيطرة.
نجد الشارع الذي كان خالياً. ألمح نخلتي جيراننا، بيت أبي سعد، أعلى من ذي قبل. مكربتين. فأفرح لأن مالك البيت الجديد يعتني بهما. نمر من أمام البيت الذي تغيّرت واجهته كلياً فغطاها اللون الأحمر الداكن. ألتقط صورتين، لكن الصديق الذي يقود السيارة يقول لي إن أهل المنطقة سيخافون ويظنّون بأنهم مستهدفون. لا أحد سيعرفني. فالكل تركوا المنطقة باستثناء عائلة واحدة. نصل إلى نهاية الشارع فأطلب منه أن يدور ويعود ثانيّة. ألتقط عدة صور سريعة. الجدار الخارجي أعلى بكثير من قبل. يخفي الحديقة. لا أثر لشجرة التوت العالية التي كانت تقف بالقرب من الباب. ولا أثر للـ«الجهنميّة» التي كانت تتسلّق الجدار خارج غرفة الضيوف نحو السطح. هل ماتتا أم أنهم قطعوهما لـ«تحديث» البيت؟ جدران بيوت الجيران، هي الأخرى، أعلى مما كانت عليه في الماضي.
الجدران تعلو والأشجار تموت.
يسألني الصديق «نرجع مرة لاخ؟»
فأجيبه: «لا، خلص. خلّي نروح».
4
الأماكن نسخ باهتة، مغبرّة، من «الأصل» القديم، وقد شُطِبَ منها، وعليها، الكثير. هل تتذكر الشوارع كيف كانت في ما مضى؟ هل تحنُّ إلى ماضيها؟ هل تعاني، هي أيضاً، من إغواء الذاكرة الانتقائية، فتنسى عذاباتها السابقة؟ جسد المكان متعب، يئنّ.
في الطريق إلى شارع المتنبي كانت الكثير من المحال مغلقة باستثناء مطعم صغير ومحل كبير يحفل بالكراسي والأدوات الخاصة بالمعاقين.
بالقرب من تمثال الرصافي تقف سيارة ساحبة، من سيارات المرور، وكأن النصب موقف! تفسد المشهد بأكمله. حزين ووحيد هو الرصافي، يخنقه الغبار والنسيان.
في المتنبّي أشعر بالألفة مع الكتب وأهلها.
5
مازال لفرحي موطن أيضاً، في بغداد، في بيت الشعر. كانت الهدية الأجمل أن أقرأ شعري على كتف دجلة، وفي حضن أبي نؤاس، في أمسية احتفائية نظمها بيت الشعر بالاشتراك مع دار الجمل، محاطاً بالأصدقاء الذين عرفتهم عبر الفضاء الافتراضي لسنوات، وأولئك الذين درّستهم عبر شاشة السكايب من نيويورك من طلاب مؤسسة «صدى» في بغداد. طالعني الأمل في بريق العيون الشابّة وفي عطش أصحابها للحياة والحرية. وتذكّرت مرة أخرى أن الشعر (والإبداع) هو البيت الحقيقي. وأن ما نكتبه رسائل دائماً تصل، وتُقرأ، بحب.
6
المحطّة الأخيرة قبل المطّار هي ساحة عبّاس بن فرناس، حيث تمثال الأندلسي الذي صنع جناحين من ريش وحاول أن يطير. تذكّرت طائر القطرس في قصيدة بودلير. «ما أشبه الشاعر بأمير الغيوم/ الذي كان يرود العاصفة ويهزأ بالرماة/ إنه على الأرض منفيّ بين الصيحات/ وأجنحته الجبّارة تعيقه عن مواصلة السير».
عباس بن فرناس على وشك أن يطير، لكن ليس بعيداً عن بغداد، بل نحوها. لكنّه لن يطير. يعاودني شبح ُُڤالتر بنيامين الذي استحوذت على أفكاره في السنين الأخيرة. استعدت ما كتبه عن لوحة بول كلي «الملاك الجديد» والذي حفظته بعد أن قرأته مئات المرّات».
تظهر اللوحة «ملاكاً يبدو كما لو أنه على وشك الابتعاد عن شيء يتأمله باستغراق. تحدّق عيناه. فمه مفتوح وجناحاه مفرودان. هكذا يتصوّر المرء ملاك التاريخ. وجهه ملتفت نحو الماضي. وحيث نرى نحن سلسلة أحداث، يرى هو كارثة واحدة تراكم الحطام فوق الحطام وتلقيه أمام قدميه. يريد الملاك أن يبقى وأن يوقظ الموتى وأن يعيد تكوين ما تم تحطيمه. لكن هناك عاصفة تهب من الجنة وقد اشتبكت بجناحيه بعنف فلا يقوى على طوي جناحيه. تجرفه العاصفة إلى المستقبل وظهره نحوه. يعلو كوم الأنقاض أمامه إلى السماء. هذه العاصفة هي ما نسميه التقدّم».
(كاتب عراقي)
السفير