إعادة التفكير في العالم العربي.. هل كان مصطلح «الربيع العربي» مضللا؟
ترجمة وتحرير شادي خليفة – الخليج الجديد
يبدو أنّنا لا نمتنع أبدًا عن الإشارة إلى «العالم العربي» اختصارًا في أية عناوين خلال اليوم. فعندما قررت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قبل بضعة أشهر حظر نقل السلع الإلكترونية الأكبر من الهواتف المحمولة على شركات طيران معينة، وصف «إيكونوميست القرار بأنّه »حظرٌ عربيٌ آخر«، على الرغم من أنّ قرار واشنطن قد شمل تركيا، الدولة غير العربية، وفشل لندن في ضم جميع الدول العربية للقرار. وقد يبدو استخدام كلمة «عربي» بشكلٍ غير لائقٍ بمثابة تسمية مختصرة وغير بديهية نسبيًا لوصف مجموعة من البلدان التي تغطي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكن الإفراط في استخدامها يمكن أن يعمل على إخفاء الواقع بدلًا من شرحه.
وصف مضلل
ويعد مصطلح «العالم العربي»، أو في الواقع أي مصطلح مثله مثل «أمريكا اللاتينية» أو «أوروبا الشرقية»، إشكالية كبيرة، لأنّه يشجع الناس على التفكير في العالم بطريقة عامة وبسيطة. وبعد كل شيء، يجمع الاسم مجموعة من مختلف البلدان والمجتمعات والشعوب الممتدة من ساحل المغرب الأطلسي إلى شواطئ الخليج العربي بطريقة تبرز ضمنًا افتراضية أنّها بلاد متشابهة (يكون ذلك في كثيرٍ من الأحيان غير صحيح). وعلى نفس المنوال، يهمل هذا الوصف الخصائص التي تميزها عن بعضها البعض، والتي يمكن أن تلعب دورًا هامًا في الاتجاهات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي نأمل في تحليلها.
وبالنظر في تنوع المنطقة. فعلى الرغم من أنّ سكانها هم في الغالب مسلمون، فإنّهم يتحدثون العربية ويعرفون أنفسهم على أنّهم «عرب» كصفة عرقية، وهناك أيضًا العديد من الأقليات المختلفة التي تتفق في بعض الصفات، وأحيانًا لا تتفق في شيء، من هذه الصفات. قد يتكلمون الأذرية والبربرية والفارسية والفرنسية والإنجليزية، ناهيك عن لهجات مختلفة من اللغة العربية، ويمارسون الأديان من المسيحية إلى اليهودية إلى الدرزية.
وحتى مفهوم «كون المرء مسلمًا» يخضع للتفسير. فهناك اختلافات واضحة بين الشيعة والسنة والإباضية، وهناك أيضًا العديد من الفئات الفرعية داخل كل منها. وفي ظل المظلة الشيعية، يوجد الإثنا عشرية والزيدية والإسماعيلية، في حين أنّ الفرع السني قد ينقسم إلى الوهابيين والصوفيين وغيرهم. وعلى رأس هذه الفروق هناك المناقشات اللاهوتية الجارية بين التفسيرات التقليدية والحديثة لكل منها. ثم هناك البلدان نفسها. فمن بين الدول الـ 22 التي تشكل الجامعة العربية، فهناك مستويات مختلفة من الثروة، وأنواع الحكم وهياكل التحالف.
ومع ذلك، فإنّ أيًا من هذا لا يعني التغاضي عن وجود أوجه تشابه هامة أيضًا. فقد ذكر لي زميلٌ يمني كيف «من الممكن بالنسبة له السفر عبر هذه المنطقة بأسرها والشعور بالراحة مع الثقافة المشتركة والقدرة على التواصل». هذه الحكاية، في الواقع، تبرز السبب الرئيسي في كون مفهوم «العالم العربي» جذاب جدًا.
جذور العالم العربي
يوجد «العالم العربي» كعبارة وأداة مفاهيمية منذ عدة قرون، إلا أنّ استخدامه المعاصر في وسائل الإعلام الغربية يتناسب أساسًا مع الإطار النظري نفسه الذي وصفه المنظر الثقافي الشهير «إدوارد سعيد» في كتابه «الاستشراق». وتشير هذه الفكرة إلى الهيمنة العسكرية والسياسية والثقافية التي تمارسها الإمبراطوريات الأوروبية على مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهي تصف كيف أنّ الاستعمار كان له ما يبرره ويمكن له من خلال وسائل الإعلام الشعبية والأدب والفن التي صورت الثقافات الشرقية (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) بأنها أدنى وتأتي في مرتبة متخلفة.
ولا تزال عناصر هذه النظرة العالمية واضحة في بعض التحليلات اليوم أيضًا. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يمثل الخطاب الشعبي الصراعات المعقدة والمتعددة المستويات في سوريا واليمن والعراق كجزء من حرب أهلية طائفية أوسع. لكنّ هذه السردية تبالغ في تبسيط الواقع، وكما هو الحال في كثير من الأحيان مع مثل هذه الروايات، تولد حرارة أكبر بكثير من الضوء.
الربيع المتفرد
ولعله ليس من المستغرب أن يصبح الربيع العربي من أوضح مظاهر هذا الخط الفاسد في التقدير في الأعوام القليلة الماضية. والأهم من ذلك، أنّها لا تزال تؤثر على ت»حليل ما يحث في المنطقة إلى اليوم. ووفقًا لأهم الأحداث التي تنتشر في معظم المحتوى الأكاديمي والشعبي في هذا الموضوع، فإنّ الربيع العربي كان سلسلةً من الانتفاضات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والتي بدأت ظاهريًا بالتضحية الذاتية لبائعٍ تونسي في أواخر عام 2010. وأدى موته إلى تحويل المشهد السياسي في منطقة بأكملها.
ولكن ليس كل شيء ذهب للأفضل. وقد أدت الحركة بالفعل إلى بعض الإصلاحات الديمقراطية في أماكن قليلة، بما فيها تونس. ومع ذلك، غالبًا ما ينظر إلى تأثيره الدائم على أنّه كان سلبيًا في معظمه. وأثارت الاحتجاجات، خلال مراحلها الأولى، آمال موجة جديدة من التحول الديمقراطي أقرب إلى تلك التي اجتاحت الجمهوريات السوفييتية السابقة في أواخر القرن العشرين.
ولكن تم كسر هذه الآمال بسرعة في العديد من البلاد. فبدلًا من جمهوريات تستند إلى «الديمقراطية الجفرسونية»، حلت الحروب الأهلية الوحشية التي طال أمدها مكان «الكليبتوكراطياتالراكدة. وما يبدو هو أنّ الربيع انتهى.
لكنّ هذه القصة المأساوية حول «تحول الربيع العربي إلى شتاء» ليست هي القصة الكاملة. وفي الواقع، إنّها ليست قصة دقيقة جدًا على الإطلاق، لأنّها مرة أخرى تقوم على إطار تحليلي معيب. وبالإضافة إلى استخدام مصطلح «العربي» حمال الأوجه، فإنّه يقترض أيضًا كلمة «الربيع» من الحلقات الأخرى في التاريخ، بما في ذلك «ربيع الشعوب» في أوروبا عام 1848 و «ربيع براغ» عام 1968. وبالقيام بذلك، فإنّه على الفور يحد من التفرد المحتمل للمظاهرات في الشرق الأوسط، ويضع عدسة أوروبية مركزية على أي تحليلٍ لاحق.
ومن المفارقات إلى حدٍ ما أنّ المصطلح يعني أنّ الانتفاضات في البلدان ذات الأغلبية العربية كانت منفصلة تمامًا عن الاحتجاجات الشعبية التي وقعت في نفس الوقت تقريبًا في كردستان و(إسرائيل) وتركيا وأوكرانيا التي تشترك في لغاتٍ وسماتٍ مماثلة. ويقول بعض المحللين، بمن فيهم «حميد دباشي»، من جامعة كولومبيا، أنّ انتفاضات الربيع العربي تعكس نفس الرفض الواسع للاستبداد ما بعد الاستعمار الذي قامت به الحركة الخضراء الإيرانية قبل عامين.
وبتنحية هذه المشاكل جانبًا، نجد أنّ القضية الأكبر حول مصطلح «الربيع العربي»، مثل «العالم العربي»، هي التفرد. حيث يتجاهل هذا العيب المنطقي عدم صحة الافتراض بأنّ الدول ذات الأغلبية العربية متشابهة إلى حدٍ ما، بحيث يمكن التعامل معها على أنّها وحدة واحدة متماسكة. وكما لاحظت عالمة السياسة ليزا أندرسون في ذلك الوقت، كانت الثورات في دول شمال أفريقيا، ليبيا وتونس ومصر، مختلفة تمامًا عن بعضها البعض، على عكس المظاهر الأولية.
وتفاوتت المظاهرات في نمطها وجغرافيتها بشكلٍ كبير. ففي تونس تحركت التظاهرات نحو العاصمة من المناطق الريفية المهملة، حيث عثرت على قضية مشتركة مع حركة عمالية قوية، لكن تم قمعها كثيرًا. وفي مصر، على النقيض من ذلك، كانت المدن الكبرى هي التي نظمت الانتفاضات. وفي الوقت نفسه، في ليبيا، أشعلت عصابات من المتمردين المسلحين في المقاطعات الشرقية الاحتجاجات، وكشف عن الانقسامات القبلية والإقليمية التي عانت منها البلاد لعقود.
الهروب من التفكير المقيد
ومن الواضح أنّ الانقسام بين العالمين «العربي» و«غير العربي» يعد تعسفيًا، ويذكرنا بمشكلةٍ أطلق عليها الأكاديميان أندرياس فيمر ونينا غليك شيلر «القومية المنهجية». وفي معظم أبحاث العلوم الاجتماعية، يقولون أنّ الدول القومية تفترض ببساطة أنّها الوحدة المناسبة للتحليل. ويجادل الاثنان بأن هذا الميل يقوم على «الطبيعة الواضحة لعالمٍ مقسمٌ إلى مجتمعاتٍ على غرار الدول القومية». ومن الناحية العملية، يمكن أن يؤدي هذا الافتراض إلى بعض القيود التحليلية الخطيرة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بقدرتنا على تحديد الاتجاهات التي تكون إما أعلى أو أدنى من مستوى الدولة القومية.
وهناك أفقٌ مفاهيميٌ مماثل واضحٌ في مفهوم «العالم العربي»، ومن السهل العثور على أمثلة لهذه «الإقليمية المنهجية» في البحث الأكاديمي. وبطبيعة الحال، لا يعني هذا أنّ أي منحةٍ دراسيةٍ في هذا المخيم يجب أن يتم رفضها بشكلٍ صريح. النقطة هي مجرد أنّنا يجب أن ندرك القيود التي يفرضها هذا النوع من العدسات على الفكر الدقيق.
وكبديل عن القومية المنهجية، يقدم كلًا من ويمر وجليك شيلر اقتراحًا مبدئيًا:
«من أجل الهروب من مغناطيسية المنهجيات المعمول بها، وطرق تحديد موضوع التحليل والخوارزميات لتوليد الأسئلة، قد نضطر إلى تطوير (أو إعادة اكتشاف) الأدوات التحليلية والمفاهيم غير الملونة من قبل الدليل الذاتي لعالمٍ مرتب في شكل دول قومية».
لذلك، بدلًا من أن يكون التحليل «ملونًا بالدليل الذاتي» لمصطلح «العالم العربي»، يجب علينا بدلًا من ذلك التركيز على العلاقة بين التجمعات الإنسانية والهياكل الموجودة فيها.
تحري الأمانة
إنّ الهدف الأهم من التحليل الجيوسياسي هو العثور على المعنى الحقيقي للبيانات الموجودة تحت تصرفنا، مع إدراك أنّ رؤيتنا المحدودة للعالم يمكن أن تحجب بعض جوانب ذلك الواقع. ونحن كطلاب في مجال الشؤون العالمية، مدفوعون بالرغبة في التعلم قدر الإمكان، ولا يمكننا أن نخاف من طرح أسئلة حول المعتقدات التي قد تؤثر على استنتاجاتنا.
تمثل عبارة «العالم العربي» نوعًا من التفكير التقليدي الذي يعبر عن العكس تمامًا، ويؤدي إلى إخفاء الحقيقة بدلًا من الكشف عنها. لذلك، فكما أنّنا نمتنع عن الإشارة إلى انتخاب «دونالد ترامب» أو الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كأجزاء من «الربيع الأنجلوسكسوني»، يجب أن نتجنب استخدام نفس الاختصارات في أجزاءٍ أخرى من العالم.
ستراتفور