إعادة صياغة “الأزمة”/ غازي دحمان
من نيويورك إلى موسكو إلى جنيف، يصرف المجتمع الدولي طاقته في التفاوض على خطوات تدريجية نحو السلام، بدلاً من المضي قدماً في إستراتيجيات ضرورية لإنهاء الصراع. إستراتيجية تدوير الزوايا الموصوفة، والتي يشترط نجاحها توفير بيئة موائمة، يمكنها إخراج الحل وتشريعه، عبر الاتفاق على تصورات الحل، ثم تشريعه وصياغته إتفاقياً، ثم التوافق على آليات تنفيذه. وعبر هذه المراحل، تمر مواقف الأطراف عبر مرشحات كثيرة، تفرضها طبيعة التسويات والمساومات.
لكن هذه الإستراتيجية تنطوي على خطر إعادة صياغة القضية السورية وبنائها من جديد. والتقدير في هذه الحالة، ومن واقع تحولات مواقف بعض الأطراف، حسبما يتم تسريبه للإعلام، بمنهجية وقصدية واضحة، أن تؤدي عملية تدوير الزوايا المذكورة إلى إعادة تشكيل العناصر الأساسية للقضية السورية، حسب أولويات وحسابات معيّنة، بحيث تصبح وفق الهيكل التالي:
العنصر الكيماوي: ويحتل المدماك الأساسي في البناء الجديد، وقد تم الاتفاق عليه في مندرجات القرار 2118، ويجري تنفيذ الأمر من خلال ورشة عمل متكاملة قانونية وسياسية. وتحاول بعض القوى الدولية تشكيل إطار مستقل يحمي هذا العنصر من المتغيرات التي قد تحصل على بقية عناصر الأزمة.
عنصر الإرهاب: وهو عنصر يطفو رويداً على سطح الحدث السوري، ويتم تجهيز الحيثيات اللازمة من أجل تعويمه وجعله يستحق الاهتمام. وتسعى روسيا إلى جذب الإهتمام العالمي إلى هذا العنصر عبر إدعائها بأن قضية الإرهاب تمثل جوهر الأزمة في سوريا. وهنا لا بد من الإعتراف بمهارة النظام وقدرته على توليف هذا العنصر وتصديره بكل براعة في المشهد السوري.
عنصر الأقليات: وقد أخذ العنصر مكانته من الأهمية ووجد متعاطفين كثر على المستويات الإقليمية والدولية. علماً أن هذا العنصر لديه قابلية كبيرة للتوظيف السياسي. وتزداد أهمية هذا العنصر في ظل حالة الإستقطاب الحادة التي يعيشها المجتمع السوري.
العنصر الإقليمي والدولي : ويتمثل بتحول الأزمة السورية إلى قضية مفتاحية لأزمات أخرى، ولم يعد ممكناً حل الأزمة بعد ان تشابكت وانعقدت مع الأوضاع الإقليمية والدولية.
أمام زحف هذه العناصر على القضية السورية يغيب العنصر الأساسي فيها وهو قضية مأساة الشعب السوري بين القتل والدمار والنزوح.
ووفق هذه العناصر المتداخلة على الحدث السوري، ثمة إجراءات ستبدأ قريباً بالإعلان عن نفسها، أولها إعادة تعريف الحدث برمته، وفي أحسن الأحوال سيصار إلى تعريفه بوصفه حرباً أهلية وليست ثورة، وهذا التوصيف هو نقطة التلاقي الوحيدة لإتفاق الأطراف، أو إتفاق الممكن والمسموح.
بعد التعريف، سينطلق البحث في تعيين الأطراف وتحديد مواقعهم ومسؤولياتهم، والمعروف أن هذه القضية معقدة نظرأ للاشتراطات التي يضعها الطرفان الداخليان، والأرجح أنها ستنتهي إلى تركيبة تلحظ تمثيل الأطراف الداعمة أكثر لجهة ولائها ومدى “مونة” تلك الأطراف عليها.
تبقى أجندة التفاوض وتلك قضية لا بد أن تجهز الأطراف الخارجية ماكينتها الأساسية وفق التصورات التي ستطرحها للحل، وهنا علينا ألا نفاجأ بتقسيم قضايا التفاوض إلى قضايا راهنة، وقضايا الحل النهائي، حيث سيجري ترحيل أغلب القضايا الإشكالية إلى مرحلة لاحقة. فالعالم المهووس بالانتصارات التكتيكية، لا وقت لديه للبحث في العمق. ربما لتبقى المسألة منتجه للتفاؤل وتراكم الانتصارات.
وليس أعقد من أجندة التفاوض سوى مرحلة الدخول بالإجراءات التنفيذية للتفاوض، وما يتعلق منها بتشكيل الهياكل والأطر التي ستنفذ الحل، وهل ستبقى المؤسسات ذاتها أم سيعاد هدمها وبناؤها من جديد، وما هي القوانين الناظمة لها وطبيعة أيديولوجيتها، مؤسسات ليبرالية أم اشتراكية قومية..
هذه تفاصيل سوف تستغرق كل واحدة منها فترات طويلة، وسوف تستهلك مزيداً من ضياع عمر السوريين في قلب الأزمة. لن تطرأ تغيرات مهمة على أوضاع المنكوبين السوريبن، والتقديرأن عددهم سيتضاعف أكثر، مع فارق أن ذلك سيكون تحت إشراف ورعاية وشرعية العالم.
ولعلّ الإشكالية الأخطر أن القضية السورية وضعت على سكة التفاوض الدولي، ولم تعد قضية تخص شعبها، طالما يحق للجميع أن يشارك في رسم مسار مستقبلها. هذه السكة لن تجلب لسوريا سلاماً أو هدوءاً، طالما هي تقع على خط التساوم الدولي وتحت سيطرته.
تُرى أليس بإمكان المجتمع الدولي تغيير حسابات الأسد لدرجة تغنيه عن الحاجة للتفاوض المديد والشائك من أجل إنهاء حربه هو على شعب سوريا؟.
المستقبل