إعادة صياغة مفهوم اليسار في ضوء ما يجري في منطقتنا
منير شحود
الحوار المتمدن – العدد: 3567 – 2011 / 12 / 5 – 18:43
ليست القوى اليسارية هي وحدها من تفاجأ بربيع الثورات العربية التي حدثت وتحدث في بلداننا، إنما كل القوى والأحزاب الأخرى تقريباً. وكانت الأمور قد استقرت على ركود قاتل تتلاعب به أنظمة مستبدة، وتحاول سد تصدعاته. ومع درجات الاختلاف والتباين من بلد لآخر فإن القواسم المشتركة تمثَّلت بغياب الحريات والمشاركة السياسية، والنزوع إلى الهجرة، والمؤشرات المنخفضة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، والميل للتقوقع في إطار التجمعات الأهلية ما قبل الوطنية. وشكَّلت هذه العوامل كلها عوامل كامنة عملت على إشعال فتيل الثورات في البلدان العربية بدءاً من تونس وليس انتهاءً بسوريا.
في هذه الأثناء، كانت معظم القوى الشيوعية التي تكيَّفت مع النموذج السوفييتي الإشكالي، وتاهت بعد انهياره عام 1991، تتخبط في حيرتها التاريخية؛ فقد اتجه بعضها صوب الليبرالية السياسية، واتجه قسم آخر صوب التيارات الدينية كتعبير عن خيبة أملٍ عميقة، بينما بقي فريق ثالث على حاله، عصياً على التغيير، بعد أن تحكَّمت بتلابيبه الأيديولوجيا.
ولم يكن واقع القوى اليسارية الأخرى أفضل حالاً، وقد تبنى بعضها الديمقراطية، بينما التحق بعض رموزها بأنظمة الاستبداد ينظِّرون لها ويشاركونها ديماغوجيا الصراع ضد القوى الخارجية المفترضة، بينما تعيث تلك الأنظمة فساداً وتنكيلاً في بلدانها لدرجة يخجل منها أي استعمار أو عدو.
وهكذا فقد تحول مفهوم اليسار من كونه ملازماً للتقدم إلى تيارات معزولة عن مجتمعاتها بدرجة كبيرة، تلك المجتمعات التي التجأت إلى الملاذ الديني إلى هذه الدرجة أو تلك، هرباً من سطوة الاستبداد، وتماشياً مع صعود “البن لادنية” في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. وربما لعبت بعض القوى اليسارية دوراً رجعياً عندما دافعت عن أنظمة الاستبداد، أو سكتت عنها، بسبب تخوفها من المد الديني الذي كان وليد اليأس وانسداد الآفاق.
وعندما تفجرت ثورات الربيع العربي، التحقت القوى اليسارية بصورة متواضعة بهذه الثورات، مقارنةً بالقوى الدينية، مع أن واقع الثورات قد أفرز قوى جديدة لا يمكن تصنيفها حتى الآن في إطار المجال السياسي التقليدي، واصطبغت القوى الدينية فيها بنوع من الليبرالية الوطنية، كما في سوريا خاصةً، بخلاف النظرة الإسلامية التقليدية التي تنضوي في إطار الأمة الإسلامية.
وإذا كان الاستبداد قد وزَّع قمعه على الجميع، فإنه أبقى على تحالفاته مع قوى دينية أدمنت ممالأة السلطات والعيش على موائدها، بينما استفادت معظم القوى الدينية من حواضنها الحزبية والأهلية التي تبقي على حد أدنى من العلاقات المنظمة يمكن البناء عليها عند اللزوم، واستثمرتها في الثورة السورية مثلاً، فمكنتها من الحصول على ملاذات آمنة في أحيائها، بعد أن حاصرها النظام ومنع بقية القوى الاجتماعية من التواصل معها.
فتحت الثورات الآفاق نحو الحرية، وتقدمت الشعوب للتعبير عن نفسها، ولحقت بها القوى الحزبية. وكونها شعبية وغير منظمة، فقد تصبح الثورات مطية لقوى انتهازية تستغل شعاراتها. وفي كل الأحوال فهي قد مكَّنت الجميع من التعبير عن رأيهم ورفع صوتهم. هل يمكن أن تلتقط قوى اليسار والديمقراطية هذه اللحظة التاريخية من أجل استعادة مفهوم اليسار الملازم لمفهوم التقدم بكل ما يعنيه في مجالات الاقتصاد والسياسة والحريات، وتقطع نهائياً مع الأنظمة والسياسات الشمولية؟ على الإجابة عن هذا السؤال يتوقف دور وأهمية مشاركة قوى اليسار في التطورات المتلاحقة في المنطقة.
وبإمكان الأحزاب اليسارية الاستفادة من الدفع الذي قدمته الثورات في استعادة علاقاتها الاجتماعية والعمل على تحقيق مصالح الفئات التي تمثلها ومصالح المجتمع ككل. وهذا مرهون باعتمادها ديناميكية جديدة تبتعد كل البعد عن طريقة التنظيم الكلاسيكية المركزية الديمقراطية، واستنادها على العمل الحر والتفاعل والتنوع والسياسة الاجتماعية المرنة التي تأخذ بعين الاعتبار التداخلات والتحولات الطبقية في ظروف التقدم التكنولوجي، والقيام بالتحالفات الضرورية التي تؤمن لها المشاركة في الحكم. ويساعد تجدُّد الدور اليساري على استعادة التوازن المطلوب في المجتمع، والوقوف في وجه قوى الاستغلال على اختلافها، والتعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية ذات المصلحة، ومنافسة القوى الدينية في هذا المضمار.
إن البرامج الاجتماعية الطموحة التي يمكن أن تشارك بها القوى اليسارية، مع المحافظة على حرية الحركة السياسية والعمل الاجتماعي، تعزز روح التحالف مع بقية القوى الديمقراطية. النقابات والجمعيات وحركات المجتمع المدني قد تكون مجالات رحبة للعمل الخدمي الذي يقود النجاح فيه لتحقيق انجازات سياسية وانتخابية تعزز من دور اليسار وتستعيد الثقة شبه المفقودة به.
لقد ارتبط العمل اليساري منذ وقت طويل بتحرر المرأة ومشاركتها، ومن الضروري استعادة دور المرأة والشباب كدور طليعي في العمل اليساري ما يؤمن الطاقة والشبابية والعناية النسائية التي تنجح أيما نجاح في كثير من النشاطات الاجتماعية المتعلقة بشؤون المرأة والطفل، وتنظيم الحملات الانتخابية وتبسيط البرامج لجعلها مفهومة.
وشاركت المرأة في كل الثورات العربية، وبدرجات مختلفة، تبعاً لدرجة القمع، فكانت تلك المشاركة جلية في اليمن، حيث أثبتت المرأة قدرتها على تجاوز الأطر الاجتماعية المتخلفة والضيقة إلى رحابة الحياة وتنوعها، متجاوزة الكثير من العوائق.
تفرض الشروط الديمقراطية على جميع القوى تنافساً لتقديم الخدمات الاجتماعية التي تطرحها في برامجها قُبيل الانتخابات، وبهذا الخصوص سيحظى الجميع بفرصة لإثبات دوره. وإن ربط الكثير من الأنظمة الدكتاتورية العربية بالعلمانية أساء إلى هذا المفهوم بصورة خطيرة، وسيفضي ذلك إلى بروز قوى الإسلام السياسي في الفترة التي تعقب الثورات، لينتفي لاحقاً أو يتعزَّز، عندما يصبح التنافس على تقديم الخدمات الاجتماعية والسياسات الوطنية هو محرك النشاط الحزبي.
وعملت التقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي على سرعة تبادل الخبرات وتعزيز الحرية الشخصية في الوقت نفسه. ويفترض ذلك تعزيز المبادرات الفردية، ما يجعل الحزب، أي حزب، كمجموعة من الطاقات الحرة المتجددة بعيدا عن المركزية والأوامرية في ظروف العمل العلني والديمقراطي.
وحسناً فعل موقع الحوار المتمدن بجمعه الكثير من القوى اليسارية والديمقراطية والليبرالية الديمقراطية، ويمكن أن يساهم هذا الموقع الحوار ومجالاته الرحبة في إلهام الكثير من اليساريين، ما يغني النقاشات والآراء المتداولة على صفحاته، ويؤهله للعب دورٍ جامعٍ كموقع حوارٍ متميز في مرحلة جديدة ومتحولة، وذلك من أجل صياغة السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمجتمعاتنا.