إعدام الكتب/ عبده وازن
عندما سألت أحد المارّة عن «ساحة الكتب»، ابتسم وأشار بأصبعه إلى شارع يتفرّع من الشارع الذي وقفت على ناصيته، ثم قال لي إن عليّ بعد اجتيازه، أن أسلك شارعاً آخر إلى اليسار، فأصل إلى تلك الساحة. لم أكد أصل حتى دهشت، شعرت أن رهبة تستولي عليّ: ساحة شاسعة كأنها مقسومة نصفين، النصف الأول تحتلّه آلات ضخمة لم أبصر يوماً ما يماثلها، تشبه مطاحن الصخور بفتحاتها العالية وما ينحدر منها من قساطل كبيرة تنتهي عند خزانات مغلقة وقد وصِلت بها محرّكات. أما النصف الآخر من الساحة فكانت تتوزّع فيه شاحنات تنتظر لإفراغ حمولتها، والى جانبها سيارات يجلس فيها أناس كأنّما ينتظرون دورهم أيضاً… ما زاد من دهشتي أنّ الشاحنات محمّلة أكداساً من الكتب، وكلّ شاحنة يحين دورها، تتقدّم قليلاً لتفرغ حمولتها داخل صناديق كبيرة يربط بينها وبين المطاحن أحزمة عريضة تدور آلياً ناقلة الكتب من الصناديق الى الفتحات العالية. وكلما سقطت بضعة كتب من الأحزمة الحديد النافرة الحواف، كان يلمّها أشخاص يقفون هناك ويجمعونها ثم يرمونها في الصناديق كي تأخذ سبيلها الى المطاحن.
كان النصف الآخر من الساحة يزدحم بالشاحنات والسيارات، وكان أناس يفرغون سياراتهم من كراتين مملوءة كتباً ويضعونها جانباً على الرصيف الواسع لينقلها عمال بعربات صغيرة إلى جانب الصناديق.
وقفت وسط جمع من أناس كانوا على ما بدوا، يقصدون هذه الساحة ليتفرّجوا على هذا المنظر الرهيب، منظر إعدام الكتب، كما قال أحدهم مبتسماً. سمعت آخرين يعبّرون عن سرورهم بهذا المشهد، مدهوشين أمام هذه الآلات الضخمة التي تبتلع الكتب بالمئات فتفرمها ثم تطحنها لتخرج في الجهة الأخرى من هذا المصنع المخيف، في مكعبات موضبة تنتظر أن تنقلها شاحنات إلى ناحية مجهولة. كان أزيز الأحزمة الحديد وآلات الفرم ذات الشفرات الضخمة أشدّ حدّة من عنين الطحن.
لم تكن السيارات والشاحنات تتوقف عن الحركة، وكلّها مملوءة كتباً جاهزة لأن ترمى في «ساحة الكتب». كان السائقون يلقون حمولاتهم ثم يغادرون متيحين المجال أمام الآخرين. كانوا يرمون الكراتين بلا رحمة أو شفقة، همّهم أن يتخلّصوا منها.
لم أعلم لماذا اشتد الازدحام ذلك اليوم في الساحة. هل كان أصحاب الكتب يتلقون مالاً مقابل طحنها؟ أم أنهم كانوا يدفعون أجر هذا الطحن؟ لم أعرف.
عندما حان الظهر أُوقفت الآلات عن العمل. إنها ساعة الغداء، قال رجل يقف في محاذاتي. ولما هدأت الحركة سألته عمّا يحصل هنا. ضحك. ثم أخبرني قائلاً: أعلنت حكومة مدينتنا، بعد قرارها منع المواطنين من القراءة والقضاء على الكتب والمكتبات، أنّها ستخصّص شهراً بكامله للاهتمام بأمر إتلاف الكتب وإراحة الناس منها بعدما ضاقت بها المدينة وباتت مرتعاً للغبار والحشرات وقوتاً للفئران وخطراً داهماً يعرّض المنازل والأبنية للحريق. إنها خدمة بالمجان تقدّمها الحكومة للناس الذين يحارون كيف يتخلّصون من مكتباتهم بعدما أضحوا لا حاجة بهم إليها ولا إلى كتبها التي من ورق، بعد صدور القرار. خلال هذا الشهر سيتم إتلاف الكتب مجاناً وبعده سيكون إتلافها مكلفاً.
عندما أنهى الرجل كلامه قرّرت أن أقترب من الآلات الضخمة أو المطاحن كما تُسمّى لأبصرها عن قرب. كانت الكتب مكدّسة على الأرض، كتب من أحجام عدّة، كتب لا تحصى عناوينها… وعندما اقتربت من المطاحن سمعت أنيناً خافتاً لم يكن ينقطع. رحت أصغي بملء جوارحي فعلمت أنّ الكتب المقطّعة والمفرومة هي التي كانت تئن. علمت حينذاك أنّ للكتب أرواحاً مثلنا نحن، بني البشر… وأنها تتألم مثلنا وتخاف. وتخيلتها تودّع أصحابها الذين طالما اعتادت دفء أيديهم وحنوَّ عيونهم. ثم عاد الهدير. إنها الحياة تدب في الساحة والمطاحن بعد استراحة الظهيرة.
عندما فتحت عينيّ في الصباح نهضت من السرير بسرعة، مذعوراً ومضطرباً، وركضت للفور إلى غرفة المكتبة، فوجدتها لا تزال على حالها، فتنفست الصعداء وتلمست الكتب بيدي وكأنّ بي شوقاً إليها، وقلت في نفسي بعدما أدركت أنني أبصرت كابوساً: الحمد لله أنني لست من مواطني تلك المدينة التي يعدمون الكتب فيها.
الحياة