لم يكتف الإعلام السوري الرسمي والموالي للنظام بتوزيع الشوكولاته والبقلاوة في شوارع حلب بعد “انتصار” أربابه هناك، بل قدمت تغطيته المكثفة من المدينة مستوى مبطناً خبيثاً من البروباغندا الطائفية، بعدما تركزت كاميرات القنوات الموالية بين أنقاض المساجد، وانطلقت من مستوى ديني جمعي لتدغدغ مشاعر الطائفة السنية تحديداً وهي “الأكبر” في البلاد.
ونقلت القنوات الموالية (الفضائية، الإخبارية، سما) تقارير موسعة من داخل المسجد الأموي ومن مساجد أصغر في حلب الشرقية مثل مسجد حذيفة في بستان القصر، ليس فقط لأنها معالم بارزة في المدينة بل لأنها توصل الكثير من الرسائل السياسية والدعائية، وفيها يصبح مَن “هدم بيوت الله” هو “الإرهاب الذي يدّعي الإسلام”، أما الذي يحمي المساجد فهو النظام السوري الحريص على كافة الأديان وتحديداً الإسلام. وحمل مراسل الإخبارية وليد هناية بحركة مسرحية نسخة ممزقة من القرآن وهو يقول أن الإرهابيين فعلوا ذلك، رغم أن قصف الطيران الشديد على المكان دمر كل شيء على ما يبدو.
يخالف ذلك شهوراً من حديث الإعلام الرسمي، ولو بشكل ضمنيّ، عن حماية الأقليات المختلفة، وتحديداً المسيحيين في حلب، سواء باللقاءات مع مواطنين مسيحيين أو بالنقل المباشر من الكاتدرائيات والكنائس، لكن أولئك جميعهم تم الاستغناء عنهم بشكل كامل في التغطية منذ الاثنين، حتى ضمن اللقاءات مع “المدنيين المحتفلين بالنصر” في الشوارع، حيث يحاول النظام طمأنة جمهوره من الطائفة السنية أولاً، وإظهار نفسه حامياً لجميع الطوائف الدينية وبديلاً “لطيفاً” و”أقل عنفاً” يحتضن المكوّن السني بدلاً من المعارضة “التي صنعها أعداء الدولة السورية وانقلبت عليهم بشكل إرهابي”.
الحركات المسرحية بلغت ذروتها لدى إعلامي النظام الأول في حلب، شادي حلوة، الذي كان يتجول برفقة الكاميرا في حلب القديمة، قبل أن يجري نحو تلة صغيرة من الركام ويحاول تسلقها وهو يلهث بأنفاس متثاقلة من أجل أن ينزل راية من رايات الفصائل المعارضة كانت مرفوعة هناك، قبل أن يأتيه أمر بالتراجع من قبل صوت مجهول ليدور حديث بينه وبين شخص بعيد لا ترصده الكاميرا وهو يحاول إثبات هويته بأنه من تلفزيون النظام حسب الاتفاق، ليكون أول من يدخل ساحة المسجد الأموي، بحسب تعبيره.
والحال أن القنوات السورية احتكرت التغطية بشكل شبه كامل، على حساب القنوات الحليفة ومراسلي “الإعلام الحربي” من “حزب الله” اللبناني مثلاً. فكانت “الإخبارية” أول وسيلة إعلامية تدخل حي بستان القصر، و”الفضائية” أول من يدخل المسجد الأموي. ولم تركز الصور على الدمار الشامل الذي يعرضه ناشطو المعارضة، بل على الرموز الدينية والتاريخية، ليجري الحديث عن صراع القِيم بين حضارة النظام السوري وظلامية معارضيه، مع محاولة التملص من المسؤولية عن كل الدمار الذي سببه قصف الطيران السوري وحليفه الروسي بالأسلحة المحرمة دولياً، واتهام المعارضة به، وهو أمر غير منطقي بصرياً نظراً لنوعية الأسلحة التي يمتلكها الطرفان.
في السياق، من المدهش كيف يتنقل إعلام النظام من كذبة إلى أخرى وكيف يحول كذباته القديمة إلى وقائع حالية وبالعكس. فطوال شهور، كان إعلام النظام يكذّب وجود مدنيين في أحياء حلب الشرقية، ويؤكد أن حربه المسعورة هناك هي للقضاء على الإرهاب فقط. لكنه اليوم يستقبل “مئات آلاف المدنيين الذين يعودون لحضن الوطن”، واستغل معاناتهم وألمهم، سواء كانوا موالين أم معارضين أم مجبرين على الحديث، بطريقة لا إنسانية، تقلبت بين الشماتة والترحيب والاستهزاء، خلال مقابلات كثيرة وصور صامتة للنزوح، وقد بعضهم رفض الحديث، رغم المحاولات المستميتة من المراسلين لانتزاع تصريح “وطني”.
ولا يتوقع طبعاً من إعلام النظام تقديم شيء من الإنسانية في تعامله مع ضحايا حلب، الذين سقطوا برصاصه وقذائفه، فهو لا يعترف أصلاً بوجود أولئك الضحايا، كما أن ميله للاحتفالية الكرنفالية في التغطية ليس مفاجئاً وربما لا يمكن مطالبته بشيء آخر سواها، لأنه، وبكل بساطة يعبّر عن هيئته ومضمونه المعروفين.
اللافت أن الإعلام السوري حاول إعطاء الفضل في حسم معركة حلب لـ”رجال الجيش السوري”، من دون الإشارة للحلفاء مثل “حزب الله” والقوات الإيرانية والطيران الروسي. وحتى عندما كان أحد المدنيين الذين تلتقيهم الكاميرا في الشوارع خلال “مسيرات النصر العفوية”، يزل لسانه بكلمة عن حسن نصرالله أو فلاديمير بوتين، كان المراسلون يصححون العبارة مباشرة نحو جنود النظام. فالدعم الخارجي ليس من شيم “المنتصرين” على ما يبدو، كما أن الخلافات بين الحلفاء كانت شديدة خلال الأسابيع الماضية، وتحديداً عبر التسريبات الإعلامية، وهو ما تكرس في التغطية أيضاً.
ورسم الإعلام هنا أن “الجيش العربي السوري” وحده، بسبب صمود الشعب السوري، وبسبب الإيمان الحقيقي والحق وغيرها من المصطلحات الفارغة، انتصر ليس فقط على المعارضة، بل على الدعم الخارجي لها. فالنظام هنا يرسم نفسه بمظهر المنتصر على “قوى الإمبريالية والشر” والقوى العربية والإخوانجية والسلفية والأردوغانية والصهيونية. اللغة الإنشائية كانت طاغية، كما هو متوقع، حتى عند توزيع البقلاوة والشوكولاته في الشوارع مع الكاميرا، وفي اللقاءات مع الناس في الشوارع حيث بدا كلامهم مُلقَّناً بشكل واضح.
من جهتها تجاوزت قناة “سما” بقية القنوات في ابتهاج النصر، باعتبارها القناة الأكثر شعوبية بين القنوات الموالية وحتى القنوات الحليفة في لبنان وإيران. فشنت هجوماً على كافة المعارضين، ليس فقط “الجماعات الإرهابية المسلحة” التي شمتت بها القنوات الأخرى، أو حتى القوى الإقليمية. ورفضت القناة، التحاور مع شخصيات معارضة مثل ميشيل كيلو أو جورج صبرا وغيرهم، مطالبةً بمحاكمتهم وإعدامهم، لأنهم “متجمدون عند العام 2011” بأفضل حال، من دون النظر إلى وصفهم بالإرهابيين والمرتزقة وغيرها من الكلمات الفوقية التي تظهر طبيعة النظام السوري بلا رتوش.
المدن
