إعلام وسط الأزمة!
فايز سارة
لا ترتبط مشكلة الإعلام في سوريا بالأزمة القائمة في البلاد منذ مارس (آذار) الماضي، بل هي مشكلة عميقة وقائمة قبل الأزمة، ولها تجسيداتها في البعدين الداخلي والخارجي. وأساس الأزمة أن الإعلام لا يتوافق بطبيعته مع مضمون نظام استبدادي – أمني مغلق، يمثل الإعلام مشكلة ماثلة في توجهاته وفي سياساته وممارساته، وهو ما جعل الإعلام السوري أسير مواصفات ومسارات عملية لم تتغير منذ تولي حزب البعث زمام السلطة.
إذن، هو إعلام تنظيري وتبريري لا يتعدى في تنظيره وتبريره محتويات ومواقف النظام الذي يديره. وبسبب من طبيعة النظام ودور الإعلام فيه، فقد تم إحكام القبضة على الإعلام المملوك في أغلبه للدولة، كما تم خلق آليات ضبط لإعلام القطاع الخاص الذي ولد من رحم الإعلام الرسمي وعلى أرضيته السياسية والمهنية، وهو ما يفسر توافقات الأداء المشترك في ظل الأزمة، وخاصة لجهة تبني سياسات ومواقف النظام حيال الأزمة القائمة سواء في أسبابها أو في احتمالاتها أو في آفاق حلها، التي يمكن اختصارها باعتبار الأزمة أمنية، وأن حلها أمني حتى لو استعان الحل بخطوات سياسية.
إن جوهر العلاقة بين النظام والإعلام، يفرض مستوى محددا وأنماطا معينة من علاقات النظام بالإعلام الخارجي.. إذ هي علاقات تميل إلى الاستبعاد في الأصل، وعندما يتم تجاوز ذلك، فيكون المسعى نحو الإخضاع والسيطرة، وفي الأبعد من ذلك، فإن العلاقة عدائية، حيث ينظر النظام إلى وسائل الإعلام الخارجية، التي لا تتوافق مع توجهاته، باعتبارها عدوا، أو هي أداة بيد الأعداء.
لقد تركت الأزمة بصماتها الثقيلة على السياسة الإعلامية للنظام، ليس في تحشيد إعلامه وضبطه بأعلى درجات الانضباط، بل تجاوزتها إلى إغلاق الفتحات المحدودة والمسارات القليلة التي كان قد تم فتحها مع الإعلام الخارجي في العقدين الأخيرين، وجاء في سياق ذلك منع وتقييد تأثير الإعلام الخارجي على السوريين، وفي هذا تعددت الإجراءات، وبينها منع مزيد من المطبوعات من دخول البلاد، والتشويش على استقبال محطات إذاعة وتلفزيون، وحظر مزيد من المواقع على الإنترنت، وأضيف إلى ذلك تقييد نشاط مراسلي وسائل الإعلام الخارجية سواء في التحرك أو الكتابة، والتشدد في منح تراخيص وأذونات المراسلين الوافدين، وعدم تجديد فترات إقامتهم في سوريا، ثم اتباع سياسات قمعية ضد الإعلاميين، تبدأ من التعنيف اللفظي ثم الطرد، وقد تصل إلى الاعتقال الذي يسبق الطرد، وتشمل هذه السلسلة عمليات تحريض ضد وسائل وشخصيات إعلامية عربية وأجنبية.. والقائمة في هذا طويلة وبعض تفاصيلها معروفة. وفي غالب الحالات السابقة، يتم وضع قوائم سوداء تتضمن أسماء إعلاميين ومؤسسات إعلامية يمنع التعامل معها أو استقبالها ويحظر التعاطي معها في سوريا.
وكان من الطبيعي في ظل السياسة الإعلامية، التي اتبعها النظام، أن يندفع المعارضون والمحتجون السوريون إلى خلق نظام إعلامي مختلف متوافق مع الحراك الشعبي وأهدافه، واستفاد السوريون مما توفره تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات في نظامهم الجديد، فخلقوا المراسل والصحافي والناشر الشعبي قليل التكاليف والحاضر في قلب الحدث، وطوروا غرفا إخبارية، ثم وكالات أنباء وصحفا ومجلات وإذاعات على الإنترنت، إضافة إلى التواصل المباشر والضمني مع وسائل الإعلام الخارجية، ويشارك في هذه التجربة الجديدة والمميزة على الصعيد العالمي أفراد وهيئات في الحراك الشعبي وأحزاب سياسية معارضة في أداء يمكن القول إنه كان تجربة مميزة، تمثل النافذة الأهم في الكشف عما شهدته سوريا من أحداث في الأشهر العشرة الماضية، إضافة إلى أنها مثلت خرقا قاسيا أكيدا للسياسة الإعلامية التي اتبعها النظام، وهو ما يفسر القسوة الشديدة التي مارستها السلطات والأجهزة في تعاملها مع مصوري المظاهرات والذين ينشرونها والمضطلعين على هذا الإعلام والذين يلقى القبض عليهم ويسجنون بتهم قاسية، وبعضهم يتم إعدامه ميدانيا من جانب القناصة.
لقد فرضت تطورات الأزمة توسيع المطالبة بدخول الإعلام الخارجي المستقل إلى سوريا لتغطية الأحداث، لا سيما في ضوء ما جرته الأحداث من تداعيات ألحقت أذيات ومعاناة واسعتين بشرية ومادية بعشرات آلاف السوريين من القتلى والجرحى والمعتقلين والمهجرين، وفي إطار موافقة السلطات السورية على المبادرة العربية واتفاقية المراقبين العرب، تم إدخال بعض ممثلي وسائل الإعلام الخارجية. وأشار وزير الإعلام السوري إلى دخول نحو مائة وخمسين وسيلة إعلام، مضيفا أن ذلك لم يخفف التحريض الذي يمارسه الإعلام الخارجي في الأزمة السورية، مما يعكس الضيق الرسمي بمجيء ممثلي الإعلام إلى البلاد، وما تقوم به من تغطيات، كان الظاهر من تكاليفها كبيرا جدا، إذ حدث في الأسبوعين الأولين من دخول الإعلاميين، مقتل صحافي فرنسي وجرح آخر بلجيكي في حمص، وشن حملة تشويه ضد صحافي عربي وزوجته، وجرى اعتقال صحافيين من كندا في دوما، وتم طرد عدد من الصحافيين، ولم يتم تجديد فترة بقاء بعض الصحافيين الراغبين في البقاء، وكثير من الصحافيين أشاروا إلى تقييد تحركاتهم، وكلها تفاصيل وحيثيات تعكس الضيق الرسمي بالإعلام الخارجي.
لم يتغير الكثير في سياسة السلطات في التعامل مع الإعلام وممثليه، كلها حيثيات وتفاصيل تكشف عن أعماق مشكلة الإعلام والنظام، وخاصة في ظل الأزمة بسوريا.
الشرق الأوسط