إقتصاد النظام ضد السوريين/ نائل حريري
نائل حريري
يمكن بسهولة ملاحظة تخبط المحللين الاقتصاديين بشأن الاقتصاد السوري وتصريحات الحكومة السورية عن متانته. ثمة تناقض واضح بين التصريحات والقرارات، وبين التفاؤل الإعلامي والتخبط المالي. برغم الانكماش الكبير للاقتصاد بنسبة تقارب 67% في عامين، ما زال النظام السوري بعيداً عن نقطة الانهيار المالي. تلك هي النقطة الأساسية التي تناولتها مجموعة أبحاث اقتصادية على مستوى العالم تحاول تفسير صمود النظام السوري حتى هذه اللحظة.
يبدو أن الدولة التي تقف على أبواب الإفلاس منذ أشهر طويلة ما زالت قادرة على خلق ظروفٍ مواتيةٍ لتوازن اقتصادي قلق، ينبثق هذا التوازن من افتراق المسارين الاقتصاديين الداخلي والخارجي تماماً كما كان الحال في ما يتعلق بالمسار السياسي.
في الداخل السوري، ثمة واقع محبط يتم تكريسه والاستفادة منه. ثمة تسطيح للمخاوف الاقتصادية عبر خلق مخاوف أكبر لدى الشريحة الأوسع من الشعب السوري. شيئاً فشيئاً تتكفل هذه المخاوف بخلق حالة التقبل للتضخم الاقتصادي المستمر والمتسارع، ويتحول الهم الأكبر للشارع إلى أولويات تتعلق بتوفر ضرورات الحياة اليومية. صرف الرواتب والمستحقات بعملة معدومة القيمة أفضل من عدم صرفها على الإطلاق، وسيطرة السوق السوداء أفضل من اندثار السوق بأكمله. على مستوى الداخل لم يكن هم الدولة تلبية الحاجات المتزايدة بل تلبية جزء منها مع خفض سقف المطالب الحياتية. فجأة أصبح الشعب السوري يعيش فعلياً تحت خط الفقر بالمقاييس العالمية، لكن من يكترث لذلك إذا كانت المقاييس نفسها قابلةً للتعديل وفق معايير وطنية صرفة يفرضها “الظرف الاستثنائي للبلاد”؟
تتطلب هذه المنظومة من الحصار الاقتصادي الداخلي على الشعب السوري احتكاراً محكماً للسوق الاقتصادية من قبل جهاتٍ متحكمة بالسلع الأساسية من محروقات ودقيق ومواد أساسية، ويغلب الظن أن الأزمات المتلاحقة في هذا الشأن لا تخلو من سيطرةٍ شبه تامة لجهاتٍ صارمة أمنية الطابع – خصوصاً في ما يتعلق بالأزمات المفاجئة التي طالت السلع الأساسية في مناطق الاشتباك الحاد – فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار المحروقات في حلب بنسبة تتجاوز 300% في يومين فقط، الأمر الذي قاد إلى ارتفاع أسعار الخبز ومشتقاته بنسبةٍ تتجاوز 500% في أسبوعٍ واحد.
المحور الخارجي المقابل يعتمد بشكل أساسي على المخزون الاحتياطي النقدي. في ظل التعتيم الأمني الشديد على أي تفاصيل تتعلق بوضع الاحتياط النقدي للدولة السورية، قام عدد لا بأس به من الباحثين الاقتصاديين السوريين بتقديم وجهات نظرهم في وضع الاحتياطي النقدي وآرائهم في الكمية المتبقية منه حتى الآن، وبغض النظر عن الأرقام المختلفة التي تراوحت بين أقل من مليار دولار وملياري دولار أميركي تقريباً (مقارنةً مع رقمٍ رسمي شهير العام 2010 يتحدث عن 18 مليار دولار أميركي) تتفق الآراء بالإجماع على أن هذا الاحتياط النقدي يتعرض للتآكل مع مرور الزمن، خصوصاً في ظل وجود عاملٍ مهم يرتبط بتراجع الإنتاج القومي وارتفاع حركة الاستيراد بشكلٍ غير مسبوق. ثمة عوامل مؤثرة أخرى بالنسبة للاحتياط النقدي تتضمن ودائع من الدول الصديقة للنظام السوري لا تعرف تفاصيلها ويحتمل أنها خضعت للتضخيم الإعلامي. وبرغم التسريبات البسيطة المتقاطعة يغلب أنّها من الوفرة بما يسهم في إطالة العمر الاقتصادي المفترض للنظام السوري لفترةٍ ليست بعيدة للغاية.
تكتمل الصورة بإجراء التقاطع الواجب بين المحور الداخلي ونظيره الخارجي، فالاحتياط النقدي الذي يستمر بالتآكل يحتاج إلى ظروفٍ تطيل من عمره الافتراضي وتزيد من إمكان استخدامه لتمويل النشاطات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للنظام، من هنا تقتضي المسألة مشاركة مجلس النقد والتسليف في خفض سعر العملة الوطنية لتخفيض النفقات التي تقتطع من الاحتياط النقدي الأجنبي. تدل مسيرة مجلس النقد في هذا الصدد طوال العام الماضي أنّ هذا الأمر تمّ بحنكةٍ ورويّة مستفيداً من أكبر مضاربي سوق العملة، ألا وهو المصرف المركزي، ويعتقد أنّ انهيار سعر العملة السورية حالياً أصبح عاملاً إيجابياً في تقييم العمر الافتراضي المتبقي للنظام السوري اقتصادياً، حيث أن المعيار الاقتصادي الذي يعتمده النظام السوري داخلياً هو استمرار صرف الرواتب والمستحقات لموظفي الدولة، فيما يبدو أن التضخم الاقتصادي ليس قضيةً ذات شأن بالنسبة للسلطة المالية التي وضعت نفسها تماماً خارج السوق وخارج الواقع الاقتصادي.
مع تقاطع هذين المحورين، نصل إلى أصل التناقض بين التصريحات والقرارات: ثمة تناقض حقيقي بين مصلحة الاقتصاد الوطني ومصلحة النظام السوري، وكلما انخفضت قيمة العملة الوطنية ازدادت قدرة النظام السوري على الاستمرار. بعد مرور عام كامل على بدايات دولرة السوق السورية ما زال المصرف المركزي يطلق تصريحاته عن التمسك بالعملة السورية ومتانة الاقتصاد السوري، وهذا يعني أن السيناريو النهائي أصبح أوضح من أي تفسيرات: المنحدر مستمر حتى نهاية الاقتصاد أو نهاية الدولة. أيهما أقرب؟