إلا عند بشار/ ميشيل كيلو
سألني أحد السفراء الأجانب: ترى، هل ستنجحون يوما في الحد من عنف النفس السورية؟ اقترحت عليه تشكيل لجنة خبراء دولية تحقق في الجرائم السورية خلال الأعوام العشرة السابقة للثورة، فإن كانت أكثر من جرائم مدينه نيويورك وحدها خلال عام، قبلنا بلجنة دولية تعيننا على تحرير السوريين من العنف المتأصل في نفوسهم. لم ينه هذا الجواب حديثنا وحده، بل أنهى علاقة الرجل بي منذ ذلك اليوم.
هناك انطباع نشره النظام الأسدي في العالم يرى أن للسوري طبيعة عنيفة ظهرت منذ انطلقت الثورة في شكل جرائم تتحدّى أي سلوك متمدن، يصعب تصديق أن مرتكبيها بشر ينتمون إلى شعب واحد أو جماعة مسالمة. هذه الفكرة، نشرها الأسد والروس، وترجموها إلى أحداث مدبرة غالباً أريد لها أن تقدم هذا الانطباع عن السوريين إرهابيين وقتلة عنيفين، لا بد من ضبطهم بالقوة والعنف، بما أن نفوسهم مشحونةٌ بقدرٍ من الغضب، يطيح عقلانية تفكيرهم وسلوكهم، ويدفعهم إلى ارتكاب جرائم شنيعة، فإن لم تضبطهم القوة، طالت شرورهم البشرية، وذاقت الويل على أيديهم.
لا داعي للتذكير بأن “آكلي الأكباد”، كما وصفهم بوتين في إحدى خطبه، تظاهروا سلميا ستة أشهر، فقدوا خلالها من دون أن يقوموا بأي رد فعل عنيف عشرات آلاف الشهداء والجرحى برصاص النظام. ولا داعي للتذكير أيضا بأن مئات من السوريين دفنوا أحياء، ووزعت فيديوهات دفنهم على كل سوري، لأنهم رفضوا القول “لا إله إلا بشار” أو “بشار ربي”. كما اعتقل مئات آلاف السوريين في أشهر الثورة الأولى دخل بعضهم سجن عدره “المدني” بجلودٍ مهترئة، لأن “إخوتهم” من مسالمي أفرع الأمن، حققوا معهم بواسطة مكواة، واستخدموا مع غيرهم أجهزة ثقب تستعمل في طب الأسنان، وحفر الجدران. والهدف دفع السوري العادي إلى رد فعل عنيف على التعذيب والحرق وثقب الأثداء وقطع الأعضاء التناسلية والاغتصاب. هذه الجهود الرسمية “المباركة” أتت أكلها بعد قرابة عام من ممارستها، ودفعت عديدين من ضحاياها للرد على عنف الجيش والأمن الأسديين الذي لم يستثن أحدا من السوريين، بمن في ذلك العلويون الذين أرسل اثني عشر معتقلا منهم شاركوا في مظاهرات الثورة الأولى إلى القرى القريبة من مدينة اللاذقية كي يعذبهم سكانها، ويورّطهم في ارتكاب جرائم ضد مواطنيهم، تحول بينهم وبين إدانة أو استنكار اتساع دوائر جرائمه الراهنة والقادمة، والتعاطف مع ضحاياها والمطالبة بوقفها. بعد أسبوع من تعذيبهم على أيدي شبيحة القرى، وجد ستة منهم قتلى في حاوية نفايات قرب مديرية المواصلات في المدينة، وهم عراة تماما، ومغمورون بغائط يغطي كامل أجسادهم، وقد كسرت أذرعهم وسيقانهم.
ليس عنف السوريين العاديين غير رد فعل يائس على عنف النظام المنهجي الذي مارسه كسياسة رسمية، طبقها أشخاص يؤمنون بالعنف ضد مواطنين، لم يكونوا عنيفين يوما، وكم تحدثت في سجن عدره مع جنائيين ارتكبوا جرائم، كانت أغلبيتهم الساحقة نادمة أو ناقمة بسبب ما فعلته. وللعلم، أفرج النظام عن كثيرين من هؤلاء، ودربهم وسلحهم وأطلق يدهم في الشعب، مقابل منحهم الحرية بعد القضاء على الثورة، وتنفيذ كل ما يأمرهم به “قادة” أمنيون وعسكريون وضعهم على رأس مجموعات منهم، مهمتهم تعظيم جرائمهم ضد الشعب إلى حدودها القصوى، استثارة لرد فعل مماثل من ضحاياه أو المنتقمين لهم، يؤكد أطروحة الأسدية حول الإرهاب سببا للمشكلة السورية، تزول بزواله، بدءا بقبول مواجهة السوريين، بقدرٍ من القوة، يقتلع العنف الكامن في روحه، وصولا إلى شرعنة حدوثه على أيدي الجيش والأجهزة الرسمية، والقبول بنتائجه التي بلغت إلى اليوم ملايين القتلى والجرحى والمشوهين والمقعدين والمختفين قسريا والموتى تحت التعذيب.
… التقيت أخيرا بألمان أبدوا إعجابهم بدرجة تحضر (وسلمية) السوريين الذين جاءوا إلى ألمانيا، وأشادوا بقابليتهم للتعلم والتقدم، وبسرعة اندماجهم في المجتمع وأماكن العمل. والحال، هناك أسماء سورية أدهش تفوقها الدراسي خلال فترة هجرتها القصيرة وسائل الإعلام والأوساط الاجتماعية في فرنسا وألمانيا وبلجيكا وكندا وأميركا وبريطانيا.
السوريون في كل مكان مسالمون ومتحضرون، إلا بالنسبة لـ”رئيسهم” بشار الأسد، الذي، بدل أن يفخر بمدنيتهم، يقتلهم بالجملة، بحجة تحريرهم من العنف، ولبوتين، الذي يساعده على إبادتهم، لأن المقتول الذي استقر في القبر وحده المواطن المسالم، الجدير بالحياة!
العربي الجديد