صفحات الحوار

إلفريده يلينك: القومية والأصولية طاعون يلتهم كل شيء

 

 

برلين – سمير جريس

تعيش الكاتبة النمسوية الحائزة جائزة نوبل إلفريده يلينك ( مواليد 24/10/1946) في عزلة تامة، لا يصلها بالعالم سوى جهاز الكمبيوتر الخاص بها. لم تعد يلينك تجري حوارات صحافية، لا سيما مع الصحف الألمانية، ولم تعد تظهر ايضاً في لقاءات عامة. تتواصل مع العالم عن طريق صفحتها الإلكترونية، وعبر ما تنشره حيناً تلو آخر من نصوص.

كل هذا كنت أعرفه عندما قررت الاتصال بها عبر البريد الإلكتروني، وعن طريق دار النشر طبعاً، دار روفولت الألمانية، عندما قررت إصدار طبعة ثانية منقحة من ترجمة عملها الأشهر «عازفة البيانو» التي ستصدر قريباً عن دار نشر «الكتب خان» في القاهرة بعد نحو عشر سنوات من صدور الطبعة الأولى إثر حصول يلينك على جائزة نوبل عام 2004.

وددت أن أسأل الكاتبة في شأن بعض المقاطع الغامضة والكلمات التي تحتمل أكثر من تأويل، فأرسلت أسئلتي عن طريق الدار إلى الكاتبة المنعزلة، وانتظرت أياماً إلى أن جاءتني الردود الشارحة والمفسرة. فسألت بحذر إذا كان ممكناً أن تكتب يلينك مقدمة قصيرة للطبعة العربية الثانية من «عازفة البيانو»، لكنّ دار النشر أفهمتني أن يلينك مشغولة جداً. فسألت عن إمكان إجراء حوار إلكتروني معها، وأرسلت هذه الأسئلة التي أجابت عنها يلينك كلها بسرعة أذهلتني.

في هذا الحوار تتحدث يلينك عن دوافعها للكتابة، وعن التطرف الديني، وتعلن رفضها كل أنواع الوصاية على القراء، مثلما حدث في الترجمة العربية لروايتها «العاشقات». وهنا الحوار:

> أعمال إلفريده يلينك تتسم بسمات نمسوية جداً، وهي مفعمة بالسخرية والتلاعب اللفظي، وهذا ما يصعّب الترجمة بالطبع. بماذا تشعرين عندما تسمعين أن أعمالك ترجمت حتى الآن إلى ما يزيد عن 35 لغة، وأحياناً إلى ثقافات مختلفة تماماً عن الثقافة النمسوية، مثل الثقافة العربية أو الصينية؟

– نعم، اللغة والتجريب اللغوي كانا دائماً من سمات الأدب النمسوي، على خلاف الأدب الألماني، وهو التقليد الذي أخذته مجموعة شعراء فيينّا بعد الحرب من الدادائيين، وواصلوا تطويره. هذا يسبب بالطبع مشكلات كبيرة للمترجمين والمترجمات، هذا أمر بديهي، ولهذا لا أستطيع أن أتخيل حتى كيف تبدو الترجمات في ثقافات مجهولة بالنسبة لي، لأني لا أعرف بنية تلك اللغات.

> هل تتبعت الجدل الذي دار حول ترجمة روايتك «العاشقات» إلى اللغة العربية؟ قام المترجم المعروف مصطفى ماهر بحذف كلمات عدة من الرواية بدعوى أنها مبتذلة ومكشوفة، ووضع بدلاً منها نقاطاً. وفي حوار أجريته معه ونشر في صحيفة «أخبار الأدب» المصرية تحت عنوان «تحجيب يلينك في القاهرة» قال إنه فعل ذلك بهدف أن تصبح الترجمة «مناسبة للمجتمع الذي ستقدم فيه»، ثم أضاف: «لو أحضرت السيدة يلينك وألبستها الملابس المصرية وحجبتها أو نقبتها، ثم أنزلتها هنا إلى الجمهور لكان لها شكل آخر». ما هو تقييمك لمثل هذا النهج في الترجمة؟

– تابعت ذلك متابعة هامشية فقط. إنني ضد كل شكل من أشكال الرقابة، حتى لو كانت تساهم ظاهراً في تحقيق فهم أفضل لدى القراء في اللغة المُتَرجم إليها. هذا يعني دائماً ممارسة الوصاية على القراء، وكأن المرء لا يثق في قدرتهم على فهم شيء ما إلا إذا قُدِم على نحو ملائم للأطفال. إن المرء يمارس الوصاية منذ البداية على جمهوره. ولكني أرى أن علينا أن نفترض دائماً وجود قارئات راشدات وقراء راشدين. وأنا بالتأكيد لن أرتدي النقاب في مصر. وبالمناسبة، فأنا لا أعتقد أن مصريات كثيرات يرتدين النقاب، لكنك بلا شك تعرف ذلك أفضل مني. كامرأة لن أقبل تحت أي ظرف من الظروف أن أتخفى تحت حجاب أو وشاح أو غطاء. وبالمناسبة، لقد كتبت مرةً نصاً صغيراً عن الحجاب.

> يتولد لدي الانطباع أحياناً بأن بعض أعمالك تتعرض إلى سوء فهم منهجي. «عازفة البيانو» على سبيل المثل هي في رأيي رواية «أخلاقية» جداً تدور حول تعذيب الأطفال باسم الفن أو الموسيقى، إنها رواية ضد ابتذال الجنــس واعتبــاره سلعة. رغم ذلك نجد تركيزاً من جانب النقاد على المشاهد البورنوغرافية في الرواية والتي هي وفق ظني، مجرد تعبير عن التشويه الذي لحق بروح البطلة. إلى أي شيء ترجعين هذه القراءة المتعسفة المنتشرة لأعمالك؟

– نعم، أشاطرك الرأي تماماً. غير أنني أعتقد أن تلقي الرواية اليوم – هذا إذا كانت ما زالت تُقرأ – يختلف عن استقبالها وقت صدورها (1983). إن تلقي عمل من الأعمال يحمل دائماً طابع الزمن الذي صدر فيه العمل. ولنتذكر ما كُتب عن فلوبير وحده! أو كيف دُمرت حياة هيرمان ملفيل (مؤلف «موبي ديك» ) لأن الناس لم يفهموا أعماله على الإطلاق؛ أو كيف كان على كاتبات وكتاب مهمين أن ينتظروا طويلاً حتى تُفهم أعمالهم على النحو الذي قصده هؤلاء الكتّاب. لا بد من القول، إذن، إنني كنت محظوظة.

> «عازفة البيانو» نوع من «تصفية الحساب» مع أمك، في حين لم يظهر الأب إلا في مشهد وحيد عند نقله إلى المصح العقلي. ويمكننا القول إن الأب أُصيب بالمرض العقلي لأنه لم يستطع نسيان أنه تعاون مع النظام الذي أراد أن يمحوه ويمحو اليهود أجمعين من الوجود. ألذلك تكتبين ضد النسيان، مثلما فعلت في رواية «أبناء الموتى»؟ وهل كان ذلك بسبب غضبك من الرئيس النمسوي الأسبق كورت فالدهايم الذي حاول نسيان ماضيه النازي؟

– نعم، الأم كحاكمة مستبدة مع الابنة (التي تعوض القضيب بالنسبة للأم، هذا إذا استخدمنا مصطلحات التحليل النفسي) والأب الغائب: هذه التركيبة شيقة بالتأكيد بالنسبة للمحللين النفسيين. ولأن سلطة النساء – عموماً – محدودة، ولأن النظام البطريركي يمنع عنهن ممارسة السلطة نحو الخارج، فهن يمارسن السلطة نحو الداخل، ويتحكمن في عائلاتهن.

أبي لم «يتعاون» مع النازيين. لقد فقدَ عمله فور انضمام النمسا إلى ألمانيا، وتم تجنيده في أعمال السخرة «الأكاديمية». كان أبي كيميائياً، وربما قام باختراعات مهمة بالنسبة للحرب (لا سيما في مجال الكاوتشوك الاصطناعي)، لكنه كان مجبراً على ذلك. كان من أشد معارضي النازيين، وكان اشتراكياً ديموقراطياً عن قناعة، مثلما كان أبوه الذي نجا من الحرب في مخبئه، في حين قُتل أعضاء آخرون من عائلته. نعم، يمكننا أن نقول ذلك: بسبب مصير عائلتي، أشعر بأني ملزمة بالكتابة ضد النسيان. لقد ألزمتني عائلتي بذلك. لم يستطع الضحايا النسيان، أما الجناة فقد سُهِّل الأمر عليهم للغاية.

> حتى الآن ترجمت لك ثلاثة أعمال إلى اللغة العربية، هي «عازفة البيانو» و»العاشقات» و«المستبعدات». أي عمل ترشحينه للترجمة الآن؟

– بالتأكيد ليست رواية «شبق». ربما رواية «شره»؟ هذه الرواية أحبها كثيراً.

> قلت يوماً إن الكراهية هي دافعك للكتابة. ما الذي يثير كراهيتك الشديدة في الوقت الحالي إلى درجة أنك تجدين نفسك مجبرة على الكتابة عنه؟

– نعم، هذا صحيح بكل تأكيد. المشاعر الإيجابية لا تدفعني للكتابة. أنا مشغولة في الوقت الراهن بجرائم القتل التي حدثت في باريس، وأكتب عنها مسرحية.

> نعم، نلاحظ أنك في مسرحياتك الأخيرة تتناولين موضوعات الساعة، مثلاً حرب العراق وسجن أبو غريب، وقضايا اليمين المتطرف في ألمانيا، والأزمة المالية، ووضع اللاجئين في لامبيدوزا، والآن عن قتل صحافيي شارلي إيبدو – هل نتوقع قريباً مسرحية عن «الربيع العربي»؟

– كما قلت، يشغلني التطرف الأصولي وجرائمه. في الغالب يكون الجناة شباناً، ربما لا يعرفون شيئاً يُذكر عن الإسلام. وفي كثير من الأحيان تفصل أسابيع عدة فحسب بين حياة دنيوية جداً وبين طريق «الهداية» الذي يجدونه.

لقد أثارت الدراما الكلاسيكية دائماً اهتمامي، وهي دراما سياسية دائماً، كما أنني أستخدم بين الحين والآخر مقولات مقتبسة من أعمال سوفوكليس وإسيخلوس ويوربيديس. المسرح فضاء للموضوعات السياسية التي يستطيع الكاتب أن يقدمها على الخشبة بلغة حماسية وفي شكل مضخم، بحيث لا يستطيع أحد أن يحوّل بصره عنها.

عن الربيع العربي لا أعرف للأسف إلا أقل القليل، ولهذا لا أجرؤ على الاقتراب منه. على الكاتبات العربيات والكتاب العرب أن يفعلوا ذلك. الكاتب لا يستطيع الكتابة إلا عن الأشياء التي «تشحنه» عاطفياً، مثل المقبس. إضافة إلى ذلك يحتاج الكاتب إلى علاقة شخصية بموضوعه. قتل عدد من الرسامين وثلاثة زبائن كانوا بالصدفة يتسوقون في متجر للبضائع «الكوشر»، أو الحلال وفق المفهوم اليهودي – هذا شيء يثير حنقي، وأستطيع أو يجب، أن أكتب عنه. هذا شيء قريب مني.

> لماذا، في رأيك، يكون الغرب دائماً متهماً في نظر العديد من العرب؟

– هذا سؤال صعب للغاية بالنسبة لي. كل ما أستطيع قوله عموماً هو أن الناس يميلون إلى إلقاء الذنب على الآخرين عندما يشعرون بأنهم مهمشون، أو تم تجاوزهم، أو أنهم متضررون. وينطبق هذا على كل المجالات، الثقافية والاقتصادية والسياسية. وأخشى أنهم يشعرون بأنفسهم ضحايا. هذا شيء خطير للغاية، لأن الإحباط ينقلب كثيراً إلى عدوانية. يجب على العرب (ولكن ليس عليّ أن أفرض عليهم أي شيء) أن يستحضروا الإنجازات الثقافية والعلمية الكبيرة في تاريخهم، وأن يواصلوا السير من حيثما توقفوا. لكنني عندما أتذكر الهجوم البشع على نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل (أو الفتوى التي صدرت ضد سلمان رشدي وأشياء أخرى)، فإنني أشعر بالتشاؤم. القومية والأصولية طاعون يلتهم كل شيء ويدمره. ما أتمناه هو مجتمع عربي جديد يقوم على العلم. إن الدين يحوّل الإنسان إلى شخص قاصر إذا أصبح بديلاً عن المعرفة، لأن كل ما يعرفه الرب ليس على الإنسان أن يعرفه أو يتعلمه أو يختبره، على الإنسان أن يفعل فحسب ما يفرضه الرب عليه. ولكن كلامي ليس بالفعل جديداً.

> وما هي في رأيك أخطاء الغرب في التعامل مع الشرق أو مع المسلمين؟

– ليس هذا سؤالاً يوجه لكاتبة مسكينة! هناك مَن حاول الإجابة عن هذا السؤال وكان يتسم بقدر أكبر بكثير من الذكاء. عندما يسمح الإنسان بفرض الوصاية عليه، وبخاصة من خلال الدين، فإن الآخرين يعاملونه كقاصر، ولا يأخذونه مأخذ الجد. هذه دائرة جهنمية لا يمكن الخروج منها إلا بالتنوير والتحرر (وبخاصة تحرّر المرأة، والإنسان عموماً)، وفصل الدين عن الدولة. لكن النقطة الأخيرة لم تتحقق في شكل تام حتى في الغرب. وفوق هذا، هناك الصعوبات الاقتصادية وبطالة الشباب، وهي مشكلة تعاني منها أوروبا كلها تقريباً، وفي بعض البلدان لا يحمي المرء من البطالة حتى الحصول على تعليم جيد، هناك الكثير مما يمكن أن يُقال. هذه بضع نقاط فقط .

> قلت في أكثر من حوار صحافي إنك كنت تخافين من الشهرة والأضواء بعد الحصول على جائزة نوبل عام 2004. والآن، بعد مرور عشر سنوات على منحك الجائزة، هل لديك شعور بأن الجائزة كان لها انعكاسات سلبية على حياتك وكتابتك؟

– لم يكن بمقدور جائزة نوبل أن تضيف شيئاً إلى المرض الذي أعانيه منذ فترة طويلة: الرهاب الاجتماعي والخوف من الناس. ولهذا لم أستطع حتى أن أتسلم الجائزة شخصياً. ويمكن القول إن وقوفي فجأة في دائرة الضوء، زاد الطين بلة. ولكن مرضي كان سيؤدي بي على كل حال، إنْ آجلاً أو عاجلاً (ربما آجلاً من دون جائزة)، إلى العزلة التي لم أخترها طواعية.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى