إلى أين من هنا؟
ميشيل كيلو
السلطة والأزمة في سوريا
بعد عامٍ ونيّف، تمسّ حاجتنا إلى سؤالٍ رئيس يحيّرنا ويقلق الشعب السوريّ: أين نحن اليوم؟ إلى أين وصلت سوريا بعد عامٍ ونيّف من حلٍّ أمنيّ انقلب بسرعة إلى حلٍّ حربيّ، ومن تظاهرٍ سلميّ إلى مقاومة مختلفة الأشكال؟
بدايةً، كان عدد من اتّهمهم النظام بحمل السلاح عند بدء الانتفاضة الشعبيّة جدّ محدود. ومع أنّه لا تتوفّر بعد أرقام حول المسلحين، فإن أعدادهم كانت محدودة جداً، بدلالة ما أورده إعلام النظام عنهم؛ وكان شحيحاً إلى درجة شكّكت يومذاك فيما كما إذا كانوا موجودين حقّاً. أما اليوم، فلا يشكّ أحد في أنّ أعدادهم تضاعفت مرّات كثيرة، وأنّ وجودهم غدا هامّاً، وأنّهم إلى ازدياد رغم العمليّات العسكرية المنظمة والمكثّفة ضدّهم، التي تلاحقهم وتحاول اجتثاثهم في كلّ مكانٍ من سوريا، وتصل إلى أعالي جبل الزاوية، الذي لم يرَ سكّانه عسكرياً محارباً واحداً منذ خرج الفرنسيّون من بلادنا.
لكن هذا ليس أخطر ما في الأمر، بالمقارنة مع النتائج الأخرى التي ترتّبت على الحلّ الأمني/الحربي، وأهمّها اثنتان:
• الانقسام المجتمعيّ العميق، الذي يأخذ أكثر فأكثر صورة انشطارٍ عموديّ يشق الشعب إلى فئات متناحرة تتحوّل بصورة مضطردة إلى جبهات مقتتلة، سيكون لانقسامها آثاراً مريعة ويصعب التنبؤ بعقابيلها المؤذية، التي ستدوم لفترةٍ طويلة جداً، وستحدث خلافات وصراعات من طبيعة إقصائية ستترك بصمة تحدٍّ خطيرة على وجود ووحدة بلادنا وشعبنا. هذا الانقسام الخطير لم يكن نتيجة جانبيّة لسياسات الحلّ الأمني التي اعتمدها النظام، بل كان أحد أهدافه المقصودة، لذلك تمّت تغذيته رسميّاً بكلّ عناية، وجرى تعميقه حسب سياسات مدروسة ومخطّطة وضعت في حسابها منذ بداية الحراك الشعبي إلى أين يجب أن يقود سوريا وهويّة الآثار التي ستنجم عنه.
• التخلّي عن السياسة كوسيلة وفضاء لحلّ الأزمة السورية، التي حوّلها النظام منذ ساعات التظاهر الأولى إلى مؤامرة خارجيّة مسلّحة مزعومة. هذا التخلّي عن السياسة قد يدوم لفترة طويلة، ويستخدم من أطراف مختلفة، بما يعنيه ويؤدّي إليه من انهيار للعقد الاجتماعي/الوطني ولأسس العيش المشترك. إنّه تخلّ يتجاوز المجال السياسي المباشر، ويتكامل مع الانقسام المجتمعيّ العميق، الذي سبق الحديث عنه في الفقرة الأولى، وهو يعزّزه ويحوّله إلى خيار ذاتيّ تتبنّاه قوى متنافية مما سيجعله على قدرٍ استثنائيّ من الخطورة، وسيجعل بلوغ عقد اجتماعيّ جديد مسألة معقّدة وصعبة وصراعيّة المحمولات، يرجح أن تطبع حقبة البديل الديموقراطي الأولى بطابع يكبح انطلاقتها ويشحنها بمشكلات لن تكون قادرة على حلّها أو التصدّي لها إبّان مرحلة بنائها الأولى إلاّ بأساليب وممارسات تشبه من جوانب مختلفة بعض ما عشناه في ظلّ الاستبداد، مع ما يمكن أن تترتّب على ذلك من انحرافات ستأخذنا إلى حيث لا نريد، وستضعنا أمام حريّة غير مكتملة وديموقراطيّة مجهضة.
أخذتنا السلطة القائمة إلى مجال ما قبل سياسيّ، وما قبل مجتمعيّ
بهذين التطوّرين، يكون النظام قد أخذنا إلى مجال ما قبل سياسيّ وما قبل مجتمعيّ: ما قبل مجتمعيّ لأنّ السلطة تخوض معركة شاملة ضد كتلة مجتمعها الرئيسة، وليس ضد هذا التنظيم المسلح أو ذاك، ولأنّها تفعل ذلك من خلال إحياء وتنظيم عصبيّات ما قبل مجتمعيّة، بيّنت التجربة أنّها كانت تحدثها وتنظّمها وتعتمدها كخط دفاعٍ عن نفسها أرسته داخل القاع المجتمعيّ، كي لا يبقى مجتمعنا موحّداً ومتماسكاّ، إن هو تمرّد أو ثار أو رفض الاستمرار في العيش بالطريقة التي فرضت منذ نيّف وأربعين عاماً عليه بالإكراه. وما بعد سياسي لأنّ تفكيك المجتمع وتقويض الدولة يضعنا أمام خيارين: الذهاب إلى حربٍ أهليّة يرجح أن لا تتوقف بذهاب النظام، أو مواجهة حقبة ما بعد النظام بتجربة ديموقراطية مقيّدة ومنقوصة، في مجتمعٍ تمّ تكسيره، ليس لها فيه أيّ حاملٍ حقيقيّ، صلب ومتماسك وحديث، ستعرج لفترة طويلة على نصف ساق قبل أن تبلغ حقيقتها وتعيد لحم المجتمع والمكوّنات التي يتشكّل منها في كلّ واحد: منظّم وتواصليّ ومتكامل.
نصل ممّا تقدم إلى ما يلي: حتّى في حال عدم حدوث تدخّل خارجي يوقف عنف النظام ضد الشعب، ويحسم الأمور من هذه الزاوية، لن تجد الأزمة السورية حلاًّ سهلاً أو سريعاً، لأنّ الاتفاق على التخلّص منها لن يتناول في البداية غير أشكالها المباشرة ومظاهرها العيانيّة، بينما ستبقى عناصر الصراع بين التكوينات ما قبل المجتمعية، التي أضيفت إليها خلال نيف وعام مضى فاعلة ومؤثّرة؛ ويرجح أن تدوم لفترة يصعب التنبؤ بمداها، مع أنّ قوى كثيرة يمكن أن تدخل عليها، منها تلك التي تمّ تنظيمها من أجل الدفاع عن النظام، في الأمن أو منظّمة الشبيحة أو العسكر، والتي لن تسلِّم بانتهاء سلطتها وستستغلّ مصاعب الديموقراطية البادئة للانقضاض عليها، بشتّى الذرائع والحجج.
لا يعني هذا أنّ السلطة الحالية ستنتصر في صراعها مع الشعب، بل يعني أمراً لا يقلّ خطورة عن انتصارها: هو وضعه أمام وقائع ستجعل من الصراع الحالي مسألة تتخطّى الصراع على السلطة، التي قد تزول من الوجود كأشخاصٍ ورموزٍ، لكنّها ستقاوم الجديد أو ستكبحه أو تفشله، وإن سقطت وزال حكمها واختفت من الوجود. هنا، نضع يدنا على عاملٍ ثالث يضاف إلى العاملين السابق ذكرهما ، هو: إنّ سياسة السلطة قد حوّلت معركتها ضد الشعب إلى صراعٍ بنيويّ يخترق أي ّمجال عام أو خاص، ويتصل ليس فقط بنمط الوجود السياسيّ لمكوّنات مجتمعية مهمّة، بل بوجودها العضوي ذاته، الذي أوهمها النظام أنّه مهدد، وأنّ عليها الدفاع عنه ضد شركاء في الوطن تحوّلوا إلى اعداء لا تنتمي إليهم ولا ينتمون إليها، من غير الجائز أن تسمح لهم بامتلاك أيّة سلطة كي لا يستخدموها ضدها، بالإفادة من موارد الدولة التي سيمكنهم تعبئتها وزجّها في معركة تكتسب طابعاً حاسماً في كلّ تفصيلٍ من تفاصيلها.
وماذا عن المجتمع السوري؟ ما الذي فعله خلال تمرّده، وإلى أين سيذهب بعد ثورته الواسعة والمستمرّة، وكيف سيعالج مشكلاته ومعضلاته الشديدة التعقيد؟
المجتمع السوريّ والأزمة
لم يحقّق مجتمع سوريا المدنيّ الثائر وحدته المأمولة خلال عامٍ ونيّف، بل بقي منقسماً إلى منظّمات صغيرة ومتفرّقة تتولّى إدارة الحراك المجتمعيّ الكبير: المتشعّب والمعقّد، دون أن تنجح أيضاً في امتلاك وتقديم رؤية موحّدة حول حراكها واحتمالاته ومساراته، قبل سقوط النظام.
ولم يحافظ مجتمع سوريا الأهلي، المسمّى تقليديّاً، على تحالفه مع المجتمع الأوّل، المدنيّ، بل ذهبت أقسام كبيرة منه في الاتجاه الذي كان النظام قد خطّط لدفعها إليه بالعنف، ويقوم على تفكيك نشاطه الموحّد إلى “حراكات” كثيرة، صغيرة، يجعلها الضغط الأمنيّ أصغر فأصغر باضطراد، حتّى إن تحرّكت في وقتٍ واحد.
ولم تتّحد التنسيقيّات، ولم تؤسّس هيكليّات مشتركة، ربّما لأنّها خشيت أن تسهّل مركزيتها القياديّة والتنظيميّة مهمة النظام في ملاحقتها وسحقها، بما هي جهاز عصبيّ للثورة يؤدّي ضربه إلى انتزاع المبادرة منها وتعجيل القضاء عليها وكبح الحراك المجتمعي الذي تقوده. بدورها، لم تتّحد التعبيرات السياسية الحزبيّة التقليدية من مختلف الاتجاهات والميول الإيديولوجية، ولم تقدّم أيّة استراتيجيّة سياسيّة، بل اكتفت بمطالبٍ وضعتها قبل الانتفاضة الشعبية، رغم أن كل فصيل من فصائلها يعلن نفسه ممثّلاً للحراك ،أو ناطقاً بإسمه، أو مشرفاً عليه أو نائباً عنه.
واليوم، وبعد نيّف وعام على الحراك، تفاقمت خلافات المعارضة التي تحوّلت إلى معارضات، وانعكست فرقتها وخلافاتها على الشارع وفيه، بينما كان النظام يعمل جاهداً لتوحيد مجاله السياسيّ، ويمنع ظهور ويقمع أيّ وهنٍ مهما كان تافهاً وضئيلا ًفي صفوفه. وبما أنّني لا انطلق من الفكرة التي ترى في الحزب الواعي وفي جماهير المجتمع المادّة التي عليه هندستها وتشكيلها بالطريقة التي تخدم مصالحه، فإنني أعطي أولويّة مطلقة لضرورة أن ينظّم الشارع المنتفض نفسه ويبلور تعبيراته السياسية الخاصّة به، الناشطة عند القاع المجتمعي بالذات، ولا تخدم أحداً غيره. والمذهل أنّ قادة الحراك نجحوا، بخلاف الأحزاب، في تنظيم احتجاجٍ شعبيّ على درجةٍ من التنظيم والجذريّة عجزت مئات آلاف عناصر الأمن والجيش عن سحقه، في حين بقوا خلال الأشهر الأربعة عشرة الماضية دون رؤية سياسية تكافيء قدرتهم على تنظيم الشعب، وتلعب دوراً رئيساً في رصّ صفوفه وقيادته. لذلك أعتقد أنّ نجاح الثورة التنظيميّ، الذي سيكون له دور مهمّ مستقبلاً فيما يتّصل بقدرتها على الإمساك بمفاصل الحياة العامة المهمّة، قد يواجه بعض الإرباك، إذا ما أخذنا بالاعتبار الصعوبات التي ستجد سوريا نفسها في مواجهتها، وثقل العبء الذي سيخلفه النظام الحالي لها، وأدركنا أنّ الثورة الظافرة، التي يصعب كثيراً أن تكون كما يتخيّل كثيرون من أشنيات وعوالق الحراك: لن تصبح بين ليلة وضحاها ديموقراطية ومدنيّة وخلواً من المشكلات والمصاعب. في حين يقول المنطق وتشهد الخبرة التاريخيّة إن الحقب التي تلي إسقاط نظم الاستبداد هي بالضرورة والقطع أصعب فترات البناء، التي يتعيّن خلالها نمط الديموقراطية، ويتقرّر مصير الثورة: نجاحاً أو فشلاً.
لا تقدّم المعارضة التقليدية أيّ شيءٍ حول هذه النقاط المهمة، وتكتفي بتهويمات عامّة عن صورة سوريا بعد النظام الحالي، ترسمها بألوان رغباتها الموروثة من زمنٍ مضى، والمكرّسة في الغالب لإقامة وضعٍ غير ديموقراطيّ أو مدني، هو حكم حزب واحد أو جبهة أحزاب ضعيفة ومستضعفة تدور حوله وتسبح في فلكه.
بعض القوى المذهبيّة عملت على تطييف الحراك
ويزيد الطين بلّة أن ما شهده الحراك المجتمعيّ من تفكّك قد حدّ كثيراً من وحدته العامّة، التي كان قد انطلق منها، وأدّى إلى إضعافه وحوله في مناطق، تحت ضغط الأمن والتحريض الطائفيّ، إلى صراعات جانبيّة لم تكن في برنامجه الأوّل ورهاناته الأصليّة. لكن بعض القوى المذهبيّة التي دخلت على الخط، وعملت لتطييف الحراك (أي جعله طائفيّاً)، دون أن تعي أنّها بذلك تلاقي جهود النظام الطائفيّة في منتصف الطريق، وضعت ثقلها وراء هذا الانحراف الخطير، وعملت لتحويله إلى خطٍّ رئيس إن لم يكن وحيد للحراك، خاصّة بعد أن أدخلت المال السياسي والسلاح إليه، وانتهجت سياسة تطالب بالتدخّل الخارجيّ، في تناقضٍ صارخٍ مع طابع الحراك الأوّل، الذي كان حراكاً مجتمعياً عامّاً من أجل حريّة جميع السوريين، وأخذ صورة نشاطٍ شاملٍ عبّر عنهم دون استثناء أيّ مكوّنٍ من مكوناتهم المجتمعيّة والتاريخيّة. هنا أيضاً، تمّ وضع حجر الأساس لعقبات مستقبليّة خطيرة، ستحول بدورها دون بلوغ الديموقراطيّة، أو ستضع عراقيل جديّة في طريقها، وستحوّلها إلى ساحة خلافات تسيء إلى صدقيّتها كنظامٍ يتساوى فيه الجميع ويتعاونون دون أحكامٍ مسبقة، يتعالى في هويّته وواقعه على أيّة مصالح جزئية، خاصّة إن كانت من طبيعة طائفية أو إتنية أو عرقية أو مذهبية … إلخ. هذا النزوع الخطير لعب دوراً كبيراً وخطيراً في تقويض وحدة الحامل المجتمعيّ للحراك الثوري، كما في تغيير طابعه وأشكال نشاطه، وفي دفعه إلى مسارات لا يمكن أن تخدم رهان الحرية. ولولا استعداد الشعب لتقديم قدر غير محدود من التضحيات، لكانت المذهبية المتبادلة بين فوق وتحت قد قصمت ظهره، على غرار ما حدث عام 1982، حين حوّلت إحدى التنظيمات المذهبيّة حلم الحريّة السوري إلى نزاعٍ طائفيّ مقيت أسهم في قتل الشعب بيد النظام.
“ليس من السهل تغيير العجلة أثناء السباق”. هذا ما تقوله حكمة شعبيّة معروفة. وليس من السهل إصلاح هذه الأخطاء الفادحة إبّان الثورة. لكنّ إصلاحها ضروري لنجاحها، وقبل كلّ شيء لاستمرارها كثورة من أجل الحريّة كمطلبٍ مجتمعيّ عام، تعتنقه حتّى تلك الكتلة الصامتة، التي تراقب الوضع منذ بدء الحراك، وكان يمكن اجتذاب أعدادٍ كبيرة جداً منها إليه، لكن ما حدث كان العكس، فقد غادر الشارع عددٌ لا بأس بوزنه من المواطنين، ليس فقط خوفاً من السلاح السلطويّ والسلاح الذي بدأ ينتشر بين الناس بقوّة الحاجة إلى حماية أرواحهم وممتلكاتهم والدفاع عن أنفسهم في وجه الحلول الأمنيّة والقتل الأعمى الرسميّ. ولكن كذلك لأن المواطن كان يرى في النواقص والأخطاء ذرائع برّر لنفسه بواسطتها الابتعاد عن الحراك، وكان من شأن التخلّص منها إقناع قطاعات واسعة منه بالالتحاق بصفوفه.
هكذا نجح السلاح الرسميّ، وأفلحت الأخطاء الكثيرة التي اقترفتها المعارضة المنظّمة بالدرجة الأولى في تقليص أعداد المتظاهرين وتعظيم أعداد المحايدين، رغم ما يعبّرون عنه في أحاديثهم وتصرفّاتهم من نقمةٍ على السلطة وعلى سياسات الإفقار والتجويع التي تفرضها عليهم، وعمليات القتل المنظم والأعمى التي تستهدفهم من خلالها، وطاولت تقريباّ كلّ إنسانٍ وبيت وكل ما يمتلكه المواطن. هنا أيضاً، يلعب خروج المواطنين الواسع من الحراك دوراً في تغيير طابعه المجتمعيّ العام الأوّل، وطابع مطالبه العادلة والمحقّة، ويترك بصماته عليه كحراك جزءٍ من الشعب يصرّ على مقاتلة النظام، بينما تتفرّج أجزاءُ أخرى مهمّة منه على المعركة، وكأنّها تتحاشى خوضها، رغم أنّها معركتها، وأن نتائجها على حياة مجموع السوريين العامّة والخاصّة لن تتوقّف عند أبواب منازلها، وإنّما ستشملها هي أيضاً، بينما سيعود انتصار الثورة عليها هي أيضاً بنفعٍ عظيم، وفشلها بضرر جسيم.
ليس من السهل فكّ المؤثّرات الناجمة عن سياسات النظام عن الخيارات والخطوات التي يتّخذها الحراك باسم المجتمع السوري، بما في ذلك القسم الذي يقف جانباً منه. مع ذلك، فإنّ نتائج الصراع ستتوقّف إلى حدٍّ بعيد على إخراج الحراك من إكراهين مؤذيين جداً قد يفضيان إلى فشله: رؤية نفسه بدلالة سياسات النظام، والعمل انطلاقاً من سياسات ومطالب مذهبيّة، جزئيّة وحزبيّة تتناقض مع طابعه العام وخياراته الديموقراطيّة. وإذا كان النظام لن يرفع سيف التمزيق والفرقة عن عنق الشعب ولن يوقف ضغوطه الأمنية عليه ، كي لا يبقى له من خيار غير البديل الثاني، الكفيل بتهيئة شروط هزيمة الحراك، فإنّ بوسع من يقودونه إلى فخّ النظام من ممثّلي الأحزاب والتيارات المعارضة الرجوع عن خطّتهم وإصلاح أخطائهم، قبل فوات الأوان ووصولنا غداً إلى ما وصلنا إليه بالأمس: تحويل معركة الحريّة إلى صراعٍ مذهبيّ يصعب جداً أن يخسره النظام، فضلاً عن أنّه من خياراته.
هل تقلع المعارضة عن إيذاء الشعب: مرّة بالركوب على حراكه رغم غربتها عنه، ومرّة بحرفه عن سبله وغاياته الأصليّة، وثالثة بحقنه بجراثيم الفرقة والتمزيق المذهبي، التي يستحيل أن يبقى الحراك السلميّ والمجتمعي قائماً إن انبثت في ثنايا جسده، ويصعب أن يتابع مساره بالنجاح المأمول في ظلّها.
هذه المشكلات جميعها يصححها المواطن العاديّ المطالب بحريّته، والذي يبذل روحه رخيصة فداءً لها. هذا هو الجديد في ثورة سوريا والعرب الحديثة!