صفحات العالم

إلى أين وصلت الثورة السورية؟/ عبدالرحمن الخطيب

 

في البدء حين كانت الثورة السورية عفوية كان هناك تقدم ملحوظ للمقاتلين على الأرض، ووصلت نسبة الأراضي المحررة إلى أكثر من 65 في المئة من مجمل مساحة سورية. بعد تأسيس المجلس الوطني، مع ما رافقه من بدايات الخلافات على الزعامات السياسية والعسكرية، والصراع الخفي بين قائد الجيش الحر العقيد رياض الأسعد وبين جماعة الإخوان المسلمين، الذين يسيطرون على المجلس، لأنهم لم يستمزجوه؛ بل وسَعَوا جاهدين إلى «التحريش» بين جميع الضباط المنشقين، ليبرز اسمهم، بعد أن كان قد اختفى ثلاثة عقود. حينها، شكّل دخول أميركا على الخط حدثاً فارقاً.

كنا نسمع بين الحين والآخر تصريحاً لأوباما بأن بشاراً فقد شرعيته. فصدّق بعضهم أن أميركا ستدعمهم، ولاسيما بعد أن وافقت وزيرة الخارجية الأميركية (آنذاك) هيلاري كلينتون على حضور اجتماع الهيئة العامة للمجلس، بناء على دعوة رئيسه برهان غليون، وبتنسيق مع نائبته بسمة قضماني.

حين دخلت هيلاري كلينتون قاعة المؤتمر، وشاهدت بعض أصحاب اللحى من ضمن أعضاء المجلس، خرجت منزعجة، وصرحت بأن هذا المجلس فاشل. بعدها تغير اتجاه البوصلة الأميركية. وكان كل ما شاهدناه وسمعناه من أميركا خلال الثورة ضحكاً على الذقون، وذراً للرماد في العيون. بل إن عملية استبدال الائتلاف بالمجلس، ومنحه ألقاباً شرفية خلبية بأنه الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري، وإلهاء المجتمع الدولي بمؤتمرات أصدقاء سورية كل بضعة أشهر، كان الطعم الذي ابتلعه الشعب السوري المتعطش للحرية. واتضحت إرهاصات المؤامرة الأميركية على الشعب السوري تماماً بعد تخليها عن التزاماتها ووعودها بمعاقبة النظام، جراء قصفه الأطفال المدنيين في الغوطة بالأسلحة الكيماوية.

إذا تناولنا تقصير المعارضة السياسية ومثالبها فقد أضحت أكثر من أن تُحصى. ومن الأسباب الجوهرية لتراجع زخم الثورة أنها ظلت تحلم بقشة الغريق الأميركية. وما فتئ معظمهم يلهث خلفها طوال ثلاثة أعوام، عسى أن يدخلوا دمشق على ظهور دباباتها. لم تكن لديهم رغبة في تصديق أن أميركا تضحك على ذقونهم بالتصريحات. ولم يتّعظوا أيضاً من إجبار أميركا لهم على الذهاب إلى جنيف، وهو ما نتج منه سقوط ورقته ممثلاً سياسياً للشعب في الخارج.

بعد انسداد أفق الحسم العسكري والسياسي خفتت الأصوات الداعمة، وضعفت المطالبات بإسقاط النظام، وترهلت المساعدات، وصلنا إلى مرحلة بات البلد مفاتيحه مستباحة، وتعصف فيه تيارات عفاريت الشرق والغرب بطرائق قدد. حتى إن النظام اعترف قبل أسبوعين بأنه استقدم 1500 مقاتل من أرمينيا، للدفاع عن أرمن منطقة كسب. استنقاع حال الحرب راق للغرب كثيراً، لأن بيع السلاح إلى جميع الأطراف المتناحرة أنعش اقتصادها الذي انهار قبل عامين. كما أن أميركا استبطنت نزعة ذرائعية ترمي إلى إسباغ صيغة جديدة للفوضى الخلاقة. وكان هناك عقد رضائي ومقايضة بينها وبين إيران ابتداءً، بأن تسلم أميركا إيران مهمة شرطي المنطقة برمتها، في مقابل التنازل عن برنامجها النووي. الطغيان الحضوري لشيعة أهل الأرض وولوجهم لقتال السنّة بات علناً من دون مواربة. فإيران همها الرابط اللوجستي قبل العقدي، تنطلق من فرضية ميكافيلية. الملمح الأهم في هدفها ألا تنقطع سلسلة الهلال الشيعي.

بداية تراجع الثورة السورية بدأ في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 في معركة حي بابا عمرو في مدينة حمص، حين تمكن جيش النظام من السيطرة على الحي، بفضل تفوق الأسلحة مقارنة بأسلحة الجيش الحر، كذلك بسبب انقطاع السلاح والمؤن عن الجيش الحر، التي كانت تدخل للحي من خلال نفق تحت الأرض- خط ساريكو سابقاً- إضافة إلى التفوق العددي للجيش النظامي، وهو ما أدى إلى اضطرار القوات المدافعة عن الحي إلى الانسحاب.

كان «بابا عمرو» مركزاً لوجستيا مهماً، وقاعدة عسكرية مركزية لتغذية المناطق المحررة بالسلاح والمؤن، لذا فخسارة هذه المعركة أعطت النظام فرصة السيطرة على أهم معاقل الجيش الحر، وهذا ما أدى إلى زعزعة صفوفه وفقدان العديد من قياداته في هذه المعركة.

دخل بعدها بشار الأسد الحي، وقام بجولة استعراضية، ليقول لمؤيديه بتكبر: أنا هنا. في شهر أيار (مايو) من العام الماضي، قرر النظام وشيعته، الذين استجلبهم من لبنان، إعادة السيطرة على القصير القريبة من حمص، والموقع الاستراتيجي ذاته لخط المقاتلين من الشمال إلى الجنوب. دامت المعركة أسبوعين، صمد خلالها الأبطال الذين كانوا يذودون عنها. ولكن تحت كثافة النيران وتنوعها، واستعمال الأسلحة المحرمة كان لا بد من تسليمها. بعدها كرت السبحة، ومن الصعب تجاهل الانكفاء العسكري للثورة. فقد تساقطت الكثير من المدن والقرى والأحياء، مثل: حي الخالدية بحمص، والريف الجنوبي الغربي لحمص، والزارة، وتلكلخ، والعتيبة بالغوطة الشرقية. وفي جبال القلمون خسر الثوار قارة، ودير عطية، والنبك، وقلعة الحصن، ويبرود، ورنكوس. وربما حمص ستسقط برمتها في الأسابيع المقبلة.

النظام يلجأ إلى أسلوب استفزازي وحقير عقب استيلائه على كل مدينة أو قرية. إذ يأتي ببعض شبيحته من طائفته من رجال الأمن وعائلاتهم، ثم يصورهم أنهم أهل تلك المدن والقرى. فيحيوا جيش المقاومة والممانعة، ويشكروا النظام، لأنه قد خلصهم من العصابات الإرهابية والوهابية والسلفية والتكفيرية. والأسطوانة المعهودة. والمضحك المبكي أن مراسلي القنوات الفضائية السورية يكررون في كل مرة الأسطوانة ذاتها، من دون أي تبديل بحرف واحد: «وها قد عاد الأمن والأمان والاستقرار إلى مدينة كذا، وعاد أهلها إليها بفضل بسالة الجيش العربي السوري، ويشكرون سيادة الرئيس بشار الأسد، الذي أنقذهم من براثن العصابات الإجرامية». ويظهر خلف الكاميرا أن المدينة برمتها قد سويت بالأرض تماماً.

لقد بات الوضع كارثياً، والقضية شائكة. ويزيد التأزم على الأزمة موت الناس المحاصرة جوعاً. والجميع لا يدري إلى متى تنتهي المعاناة. ومما زاد الطين بلة التصدع البنيوي على صعيد العلاقات الدولية بشأن القضية السورية. فما كان يمكن للمجتمع الدولي فعله تجاهها، ربما أضحى عسيراً بعد استمرار الثورة للعام الرابع. فقد توسعت الرقعة على الراتق؛ لأن كل دولة من الدول التي أطلق عليها أنها من أصدقاء سورية بات لديها من الهموم والمشكلات ما يجعلها تتهرب من استحقاقاتها في مساعدة الشعب السوري. حتى تركيا قد تغير اسمها من دولة كانت تسمى يوماً «صفر مشكلات» إلى دولة تسمى الآن «ألف مشكلة». قصارى القول: على ما يبدو أن قعقعة السلاح ستستمر عقداً من الزمن. «رُفعت الأقلام وجفت الصحف».

* باحث في الشؤون الإسلامية.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى