صفحات سوريةغازي دحمان

إلى اللقاء مع مشرق جديد/ غازي دحمان

 

 

 

اللحظة التي يكتمل فيها بناء التحالف الدولي، ويقلع فيها قطار الحرب، ستؤسس لمشرق جديد ومختلف، لن يتم الاحتفاء بهذا الحدث في اليوم التالي، المقدّر أن الأمر سيستغرق مدة زمنية، يحسبها بعضهم بالسنوات، ويتصادف أنها تتساوى مع المدد التي يصار فيها ولادة كيانات ودول، وليس مع التي تستغرقها الحروب في الزمن الحديث.

لكن، هل كل ذلك الانخراط الإقليمي والدولي يتحقق لمحاربة داعش؟ أليست الظاهرة الداعشية، في حقيقتها، ليست سوى صدى واقع مأزوم يعج بظواهر مماثلة، ويعد، على الدوام، بإنتاج نظائر لها ما لم يجر حل التناقضات المولدة لها؟ وهل تحتمل هذ المنطقة الآيلة الى التهشم والمنهكة والمحطمة نسائجها الوطنية ضغوطاً إضافية على بناها وهياكلها، وهي التي بالكاد تمضي يومها الراهن تحت سقوف الحياة؟

يعرف العالم المنخرط في الحرب على داعش أن الأخيرة ليست كل المشكلة، وإن شكّلت الجزء الساخن منها، وأن المشكلة في أمكنة معلومةٍ ومحددةٍ، ذات أطر وهياكل واضحة، لكن تناقضات المصالح الإقليمية والدولية والخطوط الحمر والحسابات الدولية المعقّدة حالت دون التوجه، مباشرة، إلى جوهر المشكلة، وعليه، فإن كل القوى الذاهبة إلى المعركة تدرك أن ثمة أهدافاً بعيدة في بالها وتنتظرها، وأن داعش ليست سوى عنوان صغير، لكنه يملك جاذبية وقدرة على التبرير، وظلاً تتفيأ تحته السياسة الدولية في هذه المرحلة… لماذا؟

بحساب المخاطر والفرص، تمتلك منطقة المشرق، مدموجة بالظاهرة الداعشية، إغراءً خاصاً لجميع الأطراف الدولية والإقليمية، ذلك أن درجة الخطر والتصادم المباشر تبدو معدومة، كما أن التداعيات، السيئة، المحتملة، يمكن تبريرها بصيغ مطاطة، تقع ما بين حماية حقوق البشر ومكافحة الإرهاب، وهي المساحة الرمادية التي أنتجت كنزاً من التبريرات الحربية، في العقود الأخيرة، من أوكرانيا إلى سوريةـ وما قبلهما.

بيد أن تفحص الواقع الدولي، وحالة الصراع فيه، يكشفان جزءاً كبيراً من المشهد الذي يراد التدليس بخصوصه، إذ لم يكن ثمة بد من هذه الحرب التي دعا العالم نفسه إليها بعيداً عن مراكزه ومصالحه، تعالوا نتقاتل في بادية الشام، كل التوترات التي حصلت في السنين الأخيرة، من بحر الصين إلى أوكرانيا، سيجري اختصارها وإعادة صياغة حساباتها، هناك، ما بين الرقة والموصل، نمتلك هوامش أكبر لإدارة الصراعات الجيبوليتيكية.

على ذلك، من المتوقع أن تشهد تلك الحرب مستويين من التحالف والصراع. تعاون ظاهري يجمع أغلب الدول المنضوية في التحالف، وتلك التي تقف في الخلفية، وتعمل على تقديم خدمات معينة، دبلوماسية أو لوجستية. وفي هذا المستوى، تتجه التفاعلات، بشكلها الظاهري، نحو تحقيق الهدف المعلن عنه. لكن، مع طول مدة الصراع، يتوقع أن يبقى التعاون والتنسيق ضمن هذا المستوى شكلياً، وسيفقد جوهره باستمرار، ستبقى مجرد بنية شكلية للحرب، هدفها امتصاص التوتر وإدارة التفاوض. وثاني المستويين، الصراعي، حيث ستبقى الأطراف على مواقفها، ودعمها جهات معينة، ومحاولة إضعافها جهات أخرى بمختلف الوسائل. وفي هذا المستوى، لكل طرف رهاناته التي سيصنع لها ديناميكيتها المناسبة.

بالنسبة لروسيا، مثلاً، ستبقى على موقفها بدعم حليفها نظام الأسد لوجستياً ودبلوماسياً، حتى لا يجري توسيع هامش الاستهداف إليه، كما يتوقع إبرازها ورقة الأقليات كعامل إرباك للتحركات الأميركية، لكنها ستتعامل مع المسألة، دائماً، على أنها فرصة لإشغال واشنطن، واستنزافها في رمال بادية الشام، لعلّ ذلك يبعد أنظارها عن التعديلات التي تجريها روسيا في غلافها الأوروبي.

وستنصب رهانات واشنطن على إعادة هيكلة المنطقة من جديد، بحيث تتحول نظاماً فرعياً مساعداً في شبكة نفوذها التي تسعى إلى مدها إلى بحر الصين، وتحويلها قاعدة خلفية للسيطرة على آسيا، في محاولة لصياغة جيواستراتيجية أميركية جديدة. وذلك الأمر لن يحصل في ظل عودة التمدد الروسي والاختراق الايراني للمنطقة، ومن دون تسوية الوضع في سورية، بتغيير الهيكل السلطوي، وعزل منظومة إيران بكاملها، بذرائع عملانية أو لأسباب سياسية، أو بمواجهتها بمنظومة قتالية سنيّة.

على ذلك، فإن المتوقع انتقال طاولة إدارة حرب العالم وصراعاته إلى بادية الشام. على الطاولة، سيكون هناك ماكيت بحجم المنطقة، كخريطة عسكرية، تشمل قواعد الانطلاق وخطوط الإمداد ونقاط الاستهداف. وفي إدراك اللاعبين، ستكون خريطة مناطق الصراع في العالم كله حاضرة، والتقدير أنه لن تنتقل تلك الطاولة قبل وضوح الرؤية على المستوى الإستراتيجي الأوسع، بمعنى أن الصراع سيكون على مستوى مخرجات الحرب، أو بطريقة أدق، شكل إخراج المنطقة بعد الحرب، بما يحوّلها إلى عامل مساعد في صياغة جيواستراتيجية الجيوبوليتيكية الدولية في المديين، المنظور والمتوسط.

لكن، من يضمن أن المشرق سيحتمل كل هذا الضغط، وذلك الغبار الذي تثيره تلك الحرب، ومن يضمن أنه لن يكون الجندي الذي سيضحى به على رقعة الشطرنج العالمية، لضمان تحقيق نقلة استراتيجية أكثر أماناً. الأرجح أنه بعد زوال الغبار، ستتكشف خريطة للمشرق غير التي بتنا عليها عشية انطلاق حرب التحالف، يؤيد هذا الاستخلاص ما ذكره هنري كيسنجر في كتابه الصادر أخيراً “النظام العالمي” من أن ” الصراع في سورية قد بدأ في إعادة رسم التصور السياسي للمنطقة”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى