إلى حضن أي وطن؟/ ميشيل كيلو
ليست سورية الوطن الذي يعود إلى حضنه من يحاصرهم النظام الأسدي، ويجوّعهم، ويقصفهم. في اللغة الأسدية، هذا الوطن هو الشخص الذي دمر سورية: بشار ابن حافظ الأسد، والذي ورث سورية عن أبيه، من جملة المتاع الذي أورثه إياه بترتيبٍ مسبق مع الحرس الجمهوري وعسكر الأجهزة الأمنية الممسكة بخناق بلادنا وطنا وشعبا، وجعل ضابطا يقول لأعضاء في “القيادة”، تحلقوا حول تابوت يحتوي جثة “قائدهم إلى الأبد”: لا تضيعوا وقتكم، وتصدروا أي أمرٍ إلينا، لأن لدينا أوامر منه وسننفذها، ومن يعارض ترئيس بشار لن يكون لديه وقت للندم.
بهذه الطريقة الديمقراطية، انتقل “الوطن” من حضن الوالد إلى حضن الولد الذي صار وهو في الرابعة والثلاثين “أبا” لشعبٍ تعداده ثلاثة وعشرين مليون سوري، ما أن ذكّروه بوعوده الإصلاحية المتكرّرة، حتى عاملهم كأنهم متمردون على الوطن، أي عليه، واعتبرهم إرهابيين “اندسوا” في صفوف الشعب لتخريب علاقته مع الوطن المتجسد فيه شخصيا، والذي يجب “تطهيره” منهم بالقوة. وقد بادرت عساكره وأجهزة قمعه إلى تطهير سورية من شعبها، بشن حرب إبادة وتهجير وتجويع وحصار واعتقال عليه، لم تبق فيها بعد ستة أعوام غير “المندسّين”، الذين كانوا “حفنة معزولة” ثم صاروا بعد التطهير “حشودا إرهابية تضم ملايين السوريين”، حسب قوله، استنجد لمقاتلتهم بعشرات تنظيمات الإرهاب العربية والأجنبية، وبدولتين إحداهما كبرى. وحين استسلم قسم منهم، واعتبر استسلامه “عودةً إلى حضن الوطن”، لم يحاكم أيا منهم بتهمة الإرهاب، بل ضمهم إلى تنظيمات شبيحةٍ قادها ضباط مخابراته، في فضيحةٍ كشفت كم كذب ليغطي على جرائمه ضد المدنيين العزّل الذين عاقبهم بسبب ثورتهم عليه، ومطالبتهم برحيله.
بضمهم إلى شبيحته، أقر الأسد بأنه استهدف المواطن الأعزل بعمليات القتل التي تعرّض لها قبل “عودته إلى حضن الوطن”، وبالتعذيب والاذلال الممنهج بعدها. لذلك، لم يرفع عنه العقوبات وكثف ملاحقته واعتقالاته وقتله تحت التعذيب، وعامله كأنه عدو مهزوم سجلت الفظاعات التي ارتكبت ضده في شهاداتٍ تفصيلية وموثقة، صدرت عن منظماتٍ دولية رسمية، تؤكد أن “حضن الوطن” لم يقدم له غير الإذلال على يد الشخص الذي لم يترك له وطنا يعود إليه، وحاربه ليقضي عليه كثائر ينشد وطنا آخر، حرا، يبطل قيامه وطن الاستبداد/ الاستعباد الأسدي الذي حوّله توريثه سورية إلى ملك إقطاعي مطلق.
يوهم الأسد نفسه بأن استسلام بعض الناجين من القتل لعنفه يبطل مشروع الوطن البديل، وطن الحرية الذي جعله الشعب، منذ لحظة الثورة الأولى، موضوع معركته الرئيس، وقرّر العودة إليه، بعد تطهيره من الفساد والاستبداد والأسد، وتنظيفه من جميع أنواع الخيانات والقمع. وقد عبر السوريون عن هذا الهدف في هتافاتهم وأهازيجهم وشعاراتهم التي أعلمت بشار أنه شخص بغيض، وذاهبُ لا محالة إلى لاهاي (محكمة الجنايات الدولية)، وأن شعب سورية مصمم على بناء وطن للحرية والإنسان، يخلو من الاستبداد والتمييز والفئوية، ينعم السوريون فيه بالمواطنة المتساوية، والعدالة والمساواة، ويتحرّرون من وطن الاستبداد الأسدي الذي كان ملكية فرد لا ينتمي إليه، ولو انتمى لما نهبه كما ينهب مستعمر أجنبي وطنا احتله بالقوة، ولا ينتمي إليه. وكان من الطبيعي أن يضحّي السوريون من أجل إفشال حرب الأسد عليهم، وكيف لا يضحّون إن كان لنجاحه معنى وحيد، هو قتلهم المؤكد في وطن الاستبداد: معسكر اعتقال الذي ليس لهم فيه حقوق أو حياة، يقتلهم النظام فيه يوميا عبر إذلالهم وانتهاك كرامتهم وتصفيتهم باسم وطن أهدى جزءا منه إلى إسرائيل عام 1967، مقابل حكم أجزائه الأخرى، كما يحكم وطن محتل بقوى استعمارية، أجنبية ولا ترحم.
بدأت في مارس/ آذار من عام 2011 ثورة، هي، في معناها العميق والحقيقي، معركة لاستعادة الوطن من نظام ألغاه بأن حوله، نيفا ونصف قرن، إلى سجنٍ تقول الثورة إن المواطن الحر يفضل الموت على استمرار عيشه فيه، مثل عبد لا وطن له.
ليس ما يجري في سورية غير صراع بين مفهومين عن الوطن، سلطوي حامله استبداد يقتل الشعب، يجسّده الأسد، ومجتمعي تحمله الحرية، بما تبثه في أرواح السوريين من تصميم على المقاومة والأمل، يمثله المواطن. إذا كان صحيحا أن من “يعودون إلى حضن النظام” يهجرون حلمهم بوطن الحرية، لماذا يعاملون عصاةً ويُبطش بهم، بعد استسلامهم؟
العربي الجديد