إلى محمد الماغوط
مصطفى زين
سبقك الوطن بالخيانة. لم تعد في حاجة إلى إعلانها. عصفورك الأحدب قتل. ضوء القمر الشاحب يطل من وراء دخان القنابل. باب توما أصبح نهراً من الدماء. الحبيبة التي كانت «تقلي السمك» لحبيبها رحلت. أو أصبحت عجوزاً. رنين الأجراس الحزين متواصل في «الباب»، وفي كل الأنحاء. مقهى الشام الذي كان يؤويك أغلق أبوابه وهجره الجميع. رصيف تشردك مليء بالجثث. المسلحون من كل حدب وصوب ملأوا الساحات والشوارع. أحلامك، أوهامك، أحزانك، تبغك، كأسك، مسرحك، شعرك … أكلها الجراد القادم من الصحراء.
جراد بحجم كل أحقاد التاريخ. عادت الرماح والسيوف والفتاوي لتفتك بأحلامك. لم يحظوا بقبرك بعد. لو عرفوه لنبشوه. انت بالنسبة إليهم كافر، ملحد، زنديق، مارق، متهتك … لا مكان لموتك بينهم . لا قبر ولا شاهدة قبر. ألم يقطعوا رأس المعري بعد مئات السنين على موته؟ الحرية التي نشدت ممنوعة عليك في الحياة وفي الموت.
العثمانيون عادوا بلغتهم ومشانقهم. الإسرائيليون تمددوا إلى مقهاك المفضل. لن تصالحهم حتى لو صالحهم كل العرب، قلت يوماً. المغول والتتار القادمون من سهوب آسيا ومن وراء البحار اجتاحوا غرفة نومك. الشرطي الذي لاحقك طوال حياتك أصبح جيوشاً تلاحق البائسين. الزنازين لم تعد تتسع. القبور لم تعد تتسع. الأمطار والوحول وحقول القمح تنبت موتاً يليه موت… يليه موت. بيروت التي أحببت تمد لسانها ساخرة منك ومن كل جيلك. الوطن الذي رفعت كأسه لم يعد وطناً.
السلمية انكفأت على ذاتها خوفاً من الجيران والأحباب. الفرات لم يعد يحمل سوى الجثث المتعفنة. تاريخ الطوائف والمذاهب والأعراق استيقظ ليقتص منك ومن رؤاك. لغتك الرقيقة تقعرت. قراؤك حملوا السلاح ليقتتلوا. جمهورك مهجر أو مقتول أو مقتلع. مسرحك ومسرح سعدالله ونوس ومسرح فواز الساجر تهاوت.
لم يعد الخلاف على الشعر الأجمل والكتابة الخلاقة. لم تعد السياسة تعنى بالأفكار. لم يعد النضال من أجل الإنسان وحريته. أصبح من أجل الأولياء والآخرة. استعاد الغيب سلطته على الجميع. خريجو الجامعات الأميون أفضل المناضلين. تعلموا الحقد قبل تعلم الحرف. كرسوا «علومهم» لقتل الإنسان…
«قبل هذا النضال العربي المظفر كان الوطن حقيقة، وبعده صار مشروعاً ثم حلماً ثم كابوساً». (من كتاب «سأخون وطني»).
الحياة