إليف شافاك: الأتراك ليس لديهم معرفة جيدة بالأدب العربي
علياء تركي الربيعو
إليف شافاك، هي روائية وأكاديمية تركية، نشرت أربع عشرة رواية، من ضمنها: “لقيطة إسطنبول”، “قواعد العشق الأربعون”، “شرف”، “الفتى المتيم والمعلم” وغيرها. نحاورها عن قضايا الأدب ومؤلفاتها، ونسألها عن وجهة نظرها في ما يخص مستقبل الرواية:
– قصصك مليئة بالتاريخ والجغرافيا والسياسة والتي تتجلى في موضوعات مثل الحوار بين الثقافات، الفجوة بين الأجيال، وقضايا المساواة بين الجنسين، كيف تستطيعين التوفيق بين كل هذه الأنواع الكتابية؟
أنا روائية ذات خلفية أكاديمية متعددة التخصصات. تخرجت من العلاقات الدولية، أكملت دراسة الماجستير في مجال الدراسات المتعلقة بالمرأة والجندر، وحصلت على درجة الدكتوراه في الفلسفة السياسية. درّست في جامعات مختلفة في تركيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة مواضيع الدراسات الثقافية، دراسات الشرق الأوسط، والتاريخ الثقافي والكتابة الإبداعية، لذا من الطبيعي أن يتسرب هذا إلى رواياتي بطريقة أو بأخرى. أنا بطبيعة الحال، شخص فضولي يحب القراءة، ثم القراءة، ثم القراءة. تماماً مثل الكون وامتداده اللامتناهي، أنا، إنسانة، لذا يتوجب علي توسيع معرفتي، ورأيي. أفضّل أن أقوم بطرح الأسئلة على الإجابة عنها، وأعتبر نفسي تلميذة لهذه الحياة.
– يعتبر الروائيون في تركيا شخصيات عامة ويتم انتقادهم أحياناً لأسباب لا علاقة لها بكتاباتهم. كيف تتعاملين مع هذه الوضعية؟ وما هي النصيحة التي يمكن أن تقدميها للكتّاب الشباب بهذا الصدد؟
يُعدّ الروائيون في بلدي الأم شخصيات عامة. لذا دائماً ما يتم الخلط بين الانتقاد والتهكم. وغالباً ما يوجه الانتقاد إلى الكتّاب لا إلى كتاباتهم. ويمكن للناس الذين لم يسبق لهم قراءة أيّ من كتبك أن يكوّنوا رأياً قويا بخصوصك. لقد تعرضت للكثير من الكراهية وردود الفعل المسيئة عندما كتبت رواية “لقيطة اسطنبول”، خصوصاً من القوميين الأتراك. إلى درجة أن بعض النساء المسنّات قمن بحرق صوري، والبصق عليها في الشوارع. لكن إذا سألتهم في ما إذا قرأوا الكتاب، الذي هم بصدد انتقاده، بهدوء وبقلب مفتوح، فإن الإجابة ستكون “لا” على الأرجح لأنهم كوّنوا رأيهم على أساس الإشاعات فقط. عندما كتبت رواية “قواعد العشق الأربعون” حدث العكس، حيث تلقيت الكثير من الحب والإعجاب من نفس الأشخاص. لذلك تعلمت، بهذه الطريقة الصعبة، أنه لا يجب أن أتخذ مشاعر الحب أو الكراهية على محمل الجد في كتاباتي. كما أنني أؤمن بقوة الخيال في فن القص وهذا الشيء يحمسني ويشجعني.
– تصفين المجتمع التركي بالذكوري، والمتحيز جنسياً، ما تأثير ذلك عليك ككاتبة امرأة؟
في تركيا، الروائي الذكر يُعرّف أولاً وقبل كل شيء باعتباره روائياً فحسب. لا أحد يتحدث عن جنسه. في حين أن الروائية ينظر إليها على أنها “امرأة” أولاً، ثم روائية. إن اللغة التي يستعملها النقاد عندما يكونون بصدد الحديث عن روائية ما تختلف اختلافاً جذرياً عن اللغة التي يستخدمونها عندما يتحدثون عن عمل روائي لرجل ما. عندما تكونين امرأة فإنهم ينظرون إليك نظرة احتقار. وهذا أمر حساس لكنه منهجي في نفس الوقت. تعتبر الرواية، كلون أدبي على وجه الخصوص، عملاً فكرياً، والمرأة لا تُحترم فكرياً حتى تشيخ. المجتمعات الذكورية تحترم إما المرأة التي تفتقر إلى الأنوثة أو المرأة العجوز. ولهذا أنا أناضل ضد الأفكار المسبقة فالتمييز الجنسي عميق الجذور، سواء ذاك الذي يكون بادياً أو الذي يحدث بطريقة مخفية.
– تتناولين في كتاباتك شخصيات النساء القويات اللواتي يتُقن إلى التحرر من التابوهات الاجتماعية، ألا تظنين أن هناك تزايداً واضحاً في مسألة غياب التضامن بين النساء في مجتمعاتنا اليوم؟
أنا من المؤمنين بمبدأ التضامن والأخوة. وكم يحز في قلبي أن أرى في مجتمعنا التركي، النساء الكماليات في مواجهة النساء المحافظات، والنساء الكرديات في مواجهة النساء التركيات، والنساء السنيات في مواجهة النساء العلويات، والنساء العاملات في مواجهة النساء البرجوازيات، كلهن للأسف، لم يستطعن التواجد معاً ضمن إطار مبدأ الأخوة. ربما كان السبب وراء ذلك هو تلك الانقسامات التي يعرفها المجتمع التركي، لكن هذا لا يخدم أبداً مجتمعنا، فالمستفيد الأكبر في حالة كهذه هو الثقافة الأبوية “البطريركية”.
– هل لا زلت تظنين أن ثقافات كالأرمنية والتركية واليونانية بإمكانها أن تتعايش معاً، كما جعلتها تتعايش معاً في روايتك “لقيطة اسطنبول”؟
إنني من كبار المؤمنين بمفهوم “الكونية”، فالتنوع رحمة وجمال. لو أننا فقط نستطيع أن نراه من هذا المنظور. كل الأنظمة الشمولية تستند إلى نظرية “التماثل” الزائفة. وهي نظرية للأسف خطيرة. فحيثما وجدت ثقافة “التماثل”، سوف يعاني الأدب، وسوف يعاني الإبداع، وسوف يعاني البشر. إن قلبي ينفطم عندما أرى أن تركيا فقدت موروثها الكوسموبوليتاني بسبب موجات القومية، والانتماءات الدينية، والتعصب.
– كتبت في روايتك “لقيطة اسطنبول” أن الأتراك يريدون ترك الماضي وراء ظهورهم والبحث عن بداية جديدة، برأيك كيف يمكن لهذا أن يتم في تركيا الحالية؟
إننا مجتمع أصيب بداء فقدان الذاكرة. فحتى لو تجولت في إسطنبول الغنية والحية بالتاريخ، فإنك سوف تلاحظين بعضاً من مظاهر داء فقدان الذاكرة. المفروض أن يكون تذكّر التاريخ نوعاً من المسؤولية، ليس بهدف التشبث به، بل بغرض التعلم من أخطاء الماضي.
– قلت سابقاً إن هناك انقسامات بين الأتراك لأسباب تعود إلى انتماءاتهم السياسية المختلفة، هل بإمكان الأدب أن يحل هذه الانقسامات؟
بالتأكيد يستطيع الأدب أن يحل هذه الانقسامات، لأن الأدب مبني على الإحساس بالآخر والتعاطف معه وتفهّمه. ثم إنه لا يوجد في فن القص “نحن” أو “هم”، بل هناك فقط البشر بنفس الآلام والأفراح، ونفس الأحلام والكوابيس. إن القصص تستطيع أن تحل الانقسامات وأن تسد الثغرات والفجوات الثقافية.
– هل تعتقدين أن الكتب العالمية تولي ما يكفي من الاهتمام بالكتّاب الشرق أوسطيين؟ وهل تظنين أن هناك اهتماماً كافياً في الغرب بكتّاب الشرق؟
للأسف هناك فجوات هائلة فيما بيننا، خصوصاً تلك المتعلقة بالمعرفة. أظن أننا يجب أن نولي أهمية قصوى بالثقافة والأدب. فأحسن الطرق للتعرف على مجتمع ما هي بقراءة أدبه. للأسف يوجد العديد من الخبراء السياسيين الغربيين المتخصصين في الشرق الأوسط لم يقرؤوا ولو رواية واحدة أو شعر كتبهما روائي مشرقي، لذا أتساءل كيف لنا أن نفهم مجتمعاً ما، من دون معرفة قصصه؟
-تترجم رواياتك إلى اللغة العربية، كما تترجم أعمال روائيين أتراك آخرين مثل أورهان باموك. لكننا في المقابل لا نجد كثيراً من الاهتمام من طرف الناشرين الأتراك بترجمة كتب عربية إلى التركية، ما السبب؟
هناك بعض الحواجز الثقافية. لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن نتجاوزها. فما علينا إلا أن نعترف بأنها هناك حتى نتمكن من تجاوزها. جيلي مثلاً اعتاد قراءة تولستوي وبلزاك وهوغو، لكننا لم نقرأ أبداً أي كاتب شرق أوسطي عندما كنا طلاباً. تُرجمت بعض كتب نجيب محفوظ، لكن ذلك حدث متأخراً. ولذلك فالأتراك ليس لديهم معرفة بالأدب العربي، وهذا مؤسف جداً. والمطلوب هو تحدي هذه الفجوات من خلال تشجيع الترجمات والترويج للحوارات الأدبية.
– ورد في حديثك أننا لم نعد نرى مفكرين وأنه لدينا اليوم قاصون لا غير، هل حقا تظنين بأن المفكرين الحقيقيين لم يعد لهم وجود؟
لم ينقرض المفكرون، طبعا لا. كل ما في الأمر أن هناك تحولا من “الحركات الاجتماعية القائمة على الإيديولوجية” إلى “الانقسام السياسي القائم على القصة”. ويحتمل أن يكون هذا إما سيئا أو جيدا، فهو يعمل في كلا الاتجاهين. في الخمسينيات والستينييات والسبعينيات من القرن الماضي كان هنالك اهتمام أكبر بالإيديولوجيات، الشيء الذي لم يعد الآن موجودا. ولسوء الحظ، حتى القصص أضحت تُستخدم لأغراض سيئة كذلك. فقد صارت تستخدم من قبل المتطرفين بهدف حشد الناس، يجب أن نقاوم مثل هذا التوجه وأن نتذكر أنه في قلب فن القص يسكن التعاطف.
– قلت سابقا أن الكتّاب يخجلون من الانخراط في السياسة، ألا تظنين أنه وفي خضم ما يحصل الآن، خصوصا في الشرق الأوسط، لم يعد بإمكانهم أن ينأوا بأنفسهم عن السياسة؟
إذا كنت كاتبا باكستانيا، أو مصريا، أو تركيا، أو نيجيريا… فأنت تنتمي إلى ديمقراطيات غير مستقرة، لذا للأسف لن تحصل على شرف أن تكون لا سياسيا. فأنا لا يمكنني ألا أشارك في السياسة، إذا كنت أهتم بما يقع حولي في العالم. ثم إنني أنتمي إلى حركة نسائية، ومن ضمن أحسن الأشياء التي أنتجتها هذه الحركات النسائية، هي أنها أبانت أن السياسة ليست محصورة فقط في البرلمانات والأحزاب السياسية. فالسياسة موجودة في منازلنا، ومدارسنا، وشوارعنا. إذن، لو كنا ننظر إلى السياسة من هذا المنظور، كيف يمكن للكاتب ألا يكون سياسيا. هناك بعد سياسي قوي في رواياتي، فأنا أتناول المحرمات السياسية، والمحرمات الجنسية، لكن هذا لا يعني أبدا أن السياسة هي من تقودني أثناء الكتابة، بل ما يلهمني ويرشدني يبقى دائما هو فن القص، وهنا فارق بسيط لكنه مهم.
-تحدثت عن بروز القومية في بريطانيا وفي مناطق أوروبية أخرى، ما الذي يجعلك مهتمة بذلك؟
إن التطرف الذي ينبع من مكان مُعين يولّد التطرف في أي مكان آخر. وأنا شخصيا أتبنى موقفا نقديا تجاه القومية المتطرفة والتعصب الديني اللذين يرتكزان على الكراهية والتعصب. وذلك بالضبط هو التعصب اليميني المتطرف. علينا أن ننظر إلى علاقاتنا مع بعضنا البعض، فكما قال الصوفيون منذ فترة طويلة، كبشر، نحن جميعا مترابطون. والأشخاص مثل دونالد ترامب يخلقون المزيد من الأشخاص المناهضين لأميركا في الشرق الأوسط، والإسلاميون الأصوليون في الشرق الأوسط خلقوا مزيدا من الخوف من الإسلام في الغرب. وبالتالي نحن ندور في دائرة مفرغة. نحن بحاجة إلى كسر هذه الحلقة المفرغة من الكراهية والعداء والازدواجية. وبحاجة أيضا للعثور على روايات قائمة على التعددية والرحمة، والإنسانية الخلاقة.
– في رصيدك الروائي أكثر من 13 كتابا إلى الآن. كيف تضمنين عدم تكرار نفسك؟
كتبت لحد الآن 14 كتابا، تسعة منها روايات. لكل واحد من هذه الكتب طابع مختلف عن الآخر، وفي هذا يجد ناشرو كتبي تحدّيا كبيرا، لأنه عندما يحقق أحد الكتب نجاحا كبيرا فإنهم يتوقعون أن يستمر الكاتب في الكتابة على نفس المنوال، إلا أنني لا أفعل هذا. فبالنسبة لي كل كتاب يعد سَفرا جديدا وعالما جديدا، بحيث إنني أدعو القارئ في هذه الرحلة. الكتب لا تغيّر فقط قراءها، بل كتّابها أيضاً.
– تتكلمين لغات عدة، بأي واحدة منها تفكرين وتحلمين، في أغلب الأحيان؟
هناك فقط ثلاث لغات ترافقني لحد الساعة: التركية، والإنجليزية، والإسبانية. إنني أكتب الرواية بالإنجليزية، وتترجم كتبي بعد ذلك للتركية، ثم أعيد كتابة النسخة التركية. لذلك فإنني أكتب كل كتاب مرتين. قد يبدو في هذا نوع من الجنون، لكن دافعي لفعل ذلك هو حبي للغات، كما أنني كنت ولا زلت أعتقد أننا إن استطعنا أن نحلم بأكثر من لغة فإننا قد نستطيع أن نكتب قصصا وروايات وشعرا بأكثر من لغة واحدة.
– ما هو نوع التعديلات التي تحافظين عليها عند كتابتك لرواية ما؟ خصوصا إذا أخذنا بالاعتبار الطبيعة المتغيرة لعادات القراءة؟
أحاول أن أتتبع العالم وأن أبث بعض الأفكار في الأشياء التي تهمّ الإنسانية. لقد كان المهندس العظيم سنان يقول: “إن العمل مثل الصلاة عندما نحب”. وأنا أدرك ما يعني ذلك، فالكتابة عندي بمثابة نوع من الصلاة. طبعا ليس بالمعنى الديني للكلمة. فالصلاة نوع من الصلة بشيء آخر فوق ما تتصور، وأكبر من نفسك. لذلك فإن الكتابة صلاة دنيوية بالنسبة لي. أنا نشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا على “تويتر”، فأنا أغرد باللغة الإنجليزية واللغة التركية، وأشارك في العديد من الاحتفاليات، وأومن بقوة القص الشفهي.
– هل تغير أسلوب كتابتك مع الوقت؟ أعني في ما يتعلق بالمواضيع، وبطريقة كتابة القصة، وباللغة؟
إن كل الكتب التي كتبتها تختلف عن بعضها، بالرغم من أن المواضيع والاهتمامات تبقى كامنة لا تتغير. وقد يستطيع القارئ المتبصر كشف هذه الخيوط أكثر مني. نعم، لقد تغيرت كتبي من ناحية الأسلوب والموضوع، فأنا أتغير، ولا أحب التكرار، أو الهمود، أو الكسل. فالتغيير طبيعة فينا، وسفرنا لا نهاية له.
-في رأيك، هل ستتمكن الرواية من العيش لقرن آخر أو قرنين؟ أي هل تعتقدين أن الناشر سوف يفقد اهتمامه بالرواية؟
أظن أنه كلما ازداد العالم الذي نعيش فيه سرعة وغموضاً، فإن حاجتنا لـ “فضاء داخلي” سوف تكبر. إن الروايات تخاطب هذا الفضاء الداخلي الموجود لدى كل فرد منا. وبالتالي، فالمفارقة هي أننا كلما زدنا في سرعتنا الوجودية قلّ صبرنا، وازدادت حاجتنا إلى قصص عميقة، وفضاءات داخلية. أعلم أن العديدين يتكلمون عن موت الرواية، وهذا يحدث منذ القرن التاسع عشر. لكن، صدّقيني، فإن الرواية سوف تعيش لوقت أطول بكثير فهي تملأ حاجة وجودية في عالم سريع ومتغير.
– كيف تنظرين إلى مستقبل صناعة النشر في العصر الرقمي؟ وهل انتهى عصر النموذج القائم (الكتاب الورقي) أم أنه فقدَ قليلا من بريقه فقط؟
إنني، وعلى عكس الكثيرين من أصدقائي الكتّاب، لست مرعوبة من التكنولوجيا الرقمية. فالشكل سيتغير، كما سبق وتغير على مر التاريخ. لكن ما لا يتغير هو حاجتنا للقصص، فهذه حاجة وجودية. كما أن فن القص قديم وكوني. وهذا سيبقى معنا. ما يخيفني أكثر ويقلقني هو العزوف الكبير عن قراءة الرواية في العالم الإسلامي، خصوصا عند بعض الرجال. بالنسبة لي، كل من يقول إنه ليس لديه وقت للروايات، فهو يعبّر بالأساس عن عدم اهتمامه بالشعور بالآخر والتعاطف معه، وحتى عدم اهتمامه بالجنس البشري. وهذه غرابة خطيرة. قراءة الروايات تثمر عقولنا، وقلوبنا، وذكائنا.
العربي الجديد