صفحات العالم

إما البلادة… وإما الوحشية

 

عبد الوهاب بدرخان

في العراق أزمة سياسية تتعامل معها الحكومة بالتجاهل. وفي مصر أزمة يعتبر الحكم أنه كان يتوقعها، وأن الوقت و«التطنيش» كفيلان بحلها. وفي ليبيا أزمة يواجهها الأفرقاء بالتمترس وراء انتماءاتهم القبلية والجهوية.

وفي تونس أزمة أمكن تنفيسها مؤقتاً من دون أي تغيير جوهري. وفي اليمن أزمة بدأ «الحوار الوطني» رحلة الألف ميل لمعالجتها، وفي سوريا أزمة اختار النظام أن يقابلها بأقصى الشدِّة والوحشية مبدداً احتمالات انتصاره ليحبط فرص انتصار المعارضة.

يعرف نوري المالكي جيداً خريطة الطريق إلى إنهاء انتفاضة المحافظات السُنية ضدّه، لكنه ببساطة لا يريد حل الأزمة، مقدّراً أنه سيخرج منها أقل قدرة على التلاعب بالسلطة والتلاعب بالقوانين والإساءة المتعمدة في استخدام القضاء والأمن والجيش. ويعرف الرئيس المصري جيداً ما عليه أن يفعل لنزع فتيل الفتنة المقيمة في شوارع القاهرة، غير أن «مكتب الإرشاد» يستبعد كلياً أي تنازل إلا إذا توافر ما يمكن كسبه في المقابل بما يخدم «خطة التمكين».

ويعرف الرئيس السوري ما هي الخطوات الواجب استدراجها لحوار وحل سياسي، إلا أنه يرفض كل ما يمكن أن يظهره كأنه يعترف بأنه لم يعد الحاكم وصاحب السلطة، مفضلاً خسارة الحكم والسلطة بقوة السلاح، أو الحفاظ عليها لمجرد اعتقاده أنه سيبقى الأقوى عسكرياً.

من بين البلدان الخمسة التي شهدت انتفاضات شعبية، حصل التغيير في اثنين منها بمستوى محدود من العنف والدم، وهما تونس ومصر، وبمستوى أقصى بلغ حداً حربياً كما في ليبيا وسوريا، أو بمستوى متوسط كما في اليمن الذي سيبقى تحت إشعار آخر نموذجاً خاصاً بفضل التدخلات الإقليمية والدولية لحمل النظام السابق على قبول حقيقة أن ساعته قد أزفت.

ومن الواضح أن نسبة العنف تحكمت في مسار المرحلة الانتقالية وشكلها هنا وهناك، لكن هذا المسار آخذ في التدهور بسبب تراكم الأخطاء والانفلات الأمني والميليشياتي.

صحيح أن الفكرة السائدة هي أن تيّار «الإسلام السياسي» هو الصاعد والمتمتع بالشعبية، لكن أداء هذا الحكم الجديد أو ذاك عبّر عن نهج سياسي محدود الخبرة والنضج، بغضّ النظر عن «إسلاميته» أو عدم إسلاميته.

الواقع أن النظم الجديدة، المستقوية بمجيئها من صناديق الاقتراع، تكشف بالتجربة أن الانتخابات وحدها لا تضمن «الشرعية». ولما كانت ترى أن لديها فرصة تاريخية للاستيلاء على السلطة لفترة طويلة مقبلة، فإنها تسعى إلى تفعيل إمكاناتها، وتجد أن السبيل الأفضل لاستكمال هذه «الشرعية» هو بالاعتماد على وسائل العنف الشرعية، أي الأمن والجيش، وفي انتظار هيمنتها عليهما لا تتردد في تطوير ميلشياتها الخاصة.

لا يعني ذلك أن الأمن والجيش ضد هذه النظم الجديدة، بل إنهما مع «الدولة» ويفترضان أن الوئام الاجتماعي، هو وظيفة الدولة وليست وظيفتهما، أما إذا تخاصمت الدولة نفسها مع المجتمع، وكانت سبباً في الانقسام الذي يمكن أن يؤدي إلى العنف، فإن الجيش والأمن لا يستطيعان الحلول محلها لإنهاء الانقسام، ومن العبث الضغط عليهما للتدخل لمصلحة فئة ضد فئة.

في أحد الحوارات/ المشاجرات التلفزيونية المصرية ألحّ المعارض على ضرورة تدخل الجيش، وسأل خصمه الموالي لماذا كان الجيش تلقائي التأييد والولاء للنظام السابق، ولماذا هو متمنّع ومتردد الآن إزاء «نظام الإخوان»؟ نسيا معاً أنهما كانا قبل شهور قليلة يهتفان معاً بإسقاط «حكم العسكر»، بل فاتهما أن «الثورة»، مرجعيتهما، غيّرت الظروف والعقول، وكان المتوقع أن تتوصل الانتخابات إلى وضع تنتقل فيه إدارة الأزمات إلى الحكومة، لكن إخفاق الحكومة في هذه الإدارة لا يمكن أن يعني العودة الفورية إلى المؤسسة العسكرية.

الجميع مدرك الآن، في مصر وسواها، أن الانتخابات قبل التوافق على الدستور كانت خطأ، نظراً إلى أنها تنتقد أساساً ثقافة سياسية معترفة بالتعددية وممارسة سياسية مستندة إلى تراث ديمقراطي.

وبسبب هذا النقص لا شيء يضمن أن التوافق على الدستور يمنع التلاعب بتطبيقه، بذريعة «الشريعة» أو غيرها. ما تفتقده النظم الجديدة، هو الاعتراف بأن الديمقراطية لا تزال في طور البناء، وبالتالي لا يمكن لأي حزب أن ينفرد بالسلطة، حتى لو كانت لديه أكثرية في المجلس النيابي، إذ أن المشاركة كانت من أبرز المطالب خلال العهد السابق ولا تزال في هذا العهد.

لكن وقائع إدارة الأزمة في مصر والعراق مثلاً، أظهرت أن الحكم يتعمد البلادة وإدارة الآذان الصماء نحو الاحتجاجات أملاً في أن يتعب أصحابها في نهاية المطاف. هذه البلادة، باتت المرادف للوحشية التي شهدناها في ليبيا، ولا نزال نشهدها في سوريا.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى