صفحات العالم

إما الظلم وإما الظلام

غسان شربل

العيش المتواصل مع الأخبار العربية مضر بالمزاج وبالصحة النفسية أيضاً. لهذا اهرب أحياناً إلى المكتبات. ابحث عن كتاب بعيدين ومواضيع بعيدة. ومنذ سنوات تسعفني هذه الكتب في محاربة ارتفاع منسوب الجثث ولوائح الاغتيالات. كنت ابحث عن كتاب في مكتبة حين استوقفني شاب سوري من قراء «الحياة».

يعتقد القراء أحياناً أن الصحافي يعرف اكثر مما يكتب ربما بسبب المتابعة المستمرة أو معرفة الأشخاص ومسارح الأحداث. لهذا امطرني الشاب بسلسلة من الأسئلة كشفت عمق القلق الذي يفترسه. سألني:» متى سنستطيع العودة إلى سورية؟ هل صحيح ما يتردد عن أن النظام سيسقط خلال حفنة أسابيع أو شهور؟ هل يمكن أن تغرق سورية في حالة من الصوملة أم ستمضي سنوات من عدم الاستقرار على غرار ما عاشه العراق؟ وهل صحيح أن الحسم العسكري سيؤدي إلى إمساك المتشددين بالسلطة فيكون قدر سورية الانتقال من الظلم إلى الظلام؟ وهل دفع السوريون كل هذه الأثمان للتخلص من تسلط البعث وأجهزته ليقعوا تحت وطأة أفكار شبه طالبانية ستؤدي إلى نهاية سورية التعايش والتعدد؟».

أوجعني سؤال الشاب عن موعد العودة. ذكرني بأسئلة كان يطرحها الصوماليون والعراقيون واللبنانيون بعد استباحة بلدانهم من الداخل والخارج. يحلم الشاب بسقوط النظام ولا يرضى بأقل من ذلك لكنه يخشى اليوم التالي بسبب ما سماه «ضعف القوى المدنية والديموقراطية أمام أصحاب البرامج الشمولية والمقاتلين الوافدين من بلدان بعيدة».

تحادثنا أمام رفوف الكتب وحاولت مواساة السائل قدر استطاعتي فأنا أيضاً اسأل عن اليوم التالي المفتوح على احتمالات كثيرة. وحين عدت إلى الفندق ظلت عبارة «إما الظلم وإما الظلام» ترن في رأسي على رغم شعوري أن الطريق الثالث وارد وإن كان محفوفاً بالصعاب.

ذكرتني العبارة بما قاله لي في دمشق قبل سنوات الشاعر محمد الماغوط في منزل صديقنا المشترك فخري كريم. كان الماغوط مجبولاً بيأسه من الواقع العربي. خاطبني قائلاً:» لا تسقط في الأمل. لا تكذب على نفسك. لا شيء يرتجى ما دام الخيار المعروض علينا هو: إما أبو نجمة (ويقصد الضابط) وإما أبو لحية (ويقصد المتشدد). الأول ينتزع أظافرك والثاني ينتزع حريتك وعنقك. نحن على قارعة التاريخ ولا علاقة لنا بالمستقبل. إننا ننقرض عملياً على رغم امتلاكنا موهبة التكاثر. يجب أخذ عينة من ترابنا إلى مختبرات العالم الراقية. قد تكون المشكلة في التربة نفسها. تنجب ضابطاً أو تنجب طالبانياً. الليل طويل».

راودني سؤال صعب. وماذا لو كان الماغوط حياً هذه الأيام؟ ماذا كان سيقول وماذا كان سيكتب؟ بماذا كان سيعلق على بقايا القرى وبقايا المدن وبقايا سورية وبقايا العائلات؟ على بقايا حمص وبقايا حلب وبقايا دمشق؟ على حطام الأسواق القديمة وحطام التعايش وحطام التاريخ وحطام الياسمين؟.

كان الماغوط ، كما الشاب الذي استوقفني، مذعوراً من الخيار القاتل بين الظلم والظلام. لكنه كان محظوظاً. ليس فقط بسبب منجم الغزلان البرية في دماغه. وليس فقط بسبب لجوئه باكراً إلى غابة روحه ومخيلته مستدرجاً الأقمار والينابيع وعناقيد الجمر. وليس فقط لأن اللغة كانت تستحم في عينيه وتفر من قبور القاموس. بل أيضاً لأن بائع الصور والسموم حالفه الحظ لمرة إذ غاب قبل أن يشهد أهوال الظلم وأهوال الظلام.

أتمنى أن يكون الماغوط مخطئاً. وأن يكون الشاب مبالغاً. هذا الخيار القاتل ليس قدراً. لا بد من نافذة في اتجاه الحرية والديموقراطية والكرامة والاعتراف المتبادل بين المكونات والانتماءات. تستحق سورية العيش في ظل دولة لا تقوم على الظلم ولا تعتنق الظلام.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى