صفحات مميزةعمر قدور

إمساك عصا الثورة من منتصفها


عمر قدور

رفضت الإدارة الأميركية تشبيه حلب ببنغازي، على رغم تحذيرها من مجازر محتملة سترتكبها قوات النظام السوري في المدينة؛ ما يعني أن الإشارة لم تصدر بعد من أجل المباشرة بإسقاطه، وأن على المتحفزين لهذا الخيار دولياً أن يتريثوا مرة أخرى. هي إشارة مزدوجة، ومخاتلة في آن، فالإدارة الأميركية لم توجّه تحذيرها للجهة التي سترتكب المجازر، ولم تنذرها بأية عواقب مهما كانت ضعيفة، في الوقت الذي جزمت بأن الخيار الليبي ليس مطروحاً. في المقلب الآخر، لم يتوانَ وزير خارجية النظام عن التلويح بالمجزرة الموعودة، مستمداً قوة و «أصالة» تصريحه من طهران التي تحدث منها، ومنتشياً بدعم حلفائه الذي لم يتراجع أبداً إزاء تهاون الخصوم.

هي، مع الأسف، «ديبلوماسية المجازر» التي تتصاعد وتهبط وفق منسوب الدم السوري، فيما يظهر أن الحقوق الملحّة للسوريين راحت تتدنى إلى حد الحق في الحياة، بينما حقوقهم التي ثاروا من أجلها تبقى قيد البحث والتسويف كما ينص على ذلك الدعم الدولي اللفظي المتواصل لخطة أنان. وعلى العكس من شعارات المقاومة والممانعة التي لا تتعدى الإنشاء، أظهرت شعارات النظام الموجهة الى الداخل السوري التزاماً حرفياً تاماً. فشعار «الأسد إلى الأبد» يتم تمثّله بمحاولة إجبار السوريين على تأليه الأسد، وبالطبع استبعاد أنصاره مجرد احتمال تنحي الأخير أو المقايضة به. أما شعار «الأسد أو نحرق البلد» فيطبّق بحماسة متواصلة بواسطة الأسلحة الثقيلة بما فيها الطيران الحربي، ووصلت حرب النظام إلى مستوى الدمار الشامل، حتى من دون التلويح باستخدام الأسلحة الكيماوية.

يدرك النظام أن حربه حرب وجود، تعلو على الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية كافة، بينما تتقدم الاعتبارات السالفة الذكر إلى واجهة التصريحات الدولية، لا من أجل حشد رأي عام دولي داعم لإنقاذ السوريين وإنما من أجل التغطية على الستاتيكو السياسي الدولي، أو عدم الرغبة في زحزحته أو تجاوزه حالياً. ومجرد تقاذف الاتهامات الدولية حول المسؤولية الأخلاقية عن جرائم النظام مؤشر إلى أن هذه التبعات لم ترقَ بنظر المجتمع الدولي لتصبح مسؤولية إنسانية عامة. ولعل المؤشر الأقوى هو غياب التحركات الشعبية المؤيدة لقضية السوريين في معظم الدول الغربية الفاعلة، ذلك لأن حكوماتها لم تضع الملف السوري على نار ساخنة، ولم تهيئ الشروط الإعلامية الكفيلة بتكوين رأي عام لدى شعوبها. فإلقاء المسؤولية الأخلاقية على الروس والصينيين، وحتى الإيرانيين، لا يحمل في طياته سوى تنصّل من المسؤولية الإنسانية بصفتها وحدة لا تتجزأ. ومعلوم أن حالات التدخل خارج مجلس الأمن كانت دائماً هي الغالبة إذا قيست بالحالات التي حظيت بإجماع دولي، إذ قلّما نجا المجلس من الاستقطابات المعيقة لدوره المفترض في الحفاظ على السلم الدولي.

بعبارة أوضح، لم تقرر مراكز القوى الغربية مجتمعةً أن لحظة سقوط النظام قد حانت، ولا تمانع في أن يتلبّس حلفاؤه دور الشيطان، وفي سبيل هذه الغاية لا تمانع في مزيد من تورط النظام بالدم. ليس العجز السياسي أو العسكري ما يكبّل هذه القوى، بل انعدام التصميم وعدم الرغبة في أدنى مخاطرة. وفي المغزى السياسي الأعمق، ليس مستبعداً النظر إلى النظام باعتباره يحقق بنفسه الأهداف التي تريدها، بما أنه غير قادر على البقاء في المحصلة.

لا تملك دماء السوريين إلا قيمة هامشية، تُستهلك إعلامياً، بالقياس إلى الحسابات الاستراتيجية الأكبر، وإذا كان النظام يعمل لإسقاط سورية كبديل لسقوطه فإن جزءاً من هذا الهدف قد يكون محلّ تقاطع بينه وبين القوى الدولية. ذلك لا يعني أبداً اتفاقاً على الغايات النهائية، فالمحك هنا هو رغبة بعض القوى في استنزاف الكيان السوري كدولة وكعمق استراتيجي إقليمي إلى الحد الملائم لمصالحها. بعيداً من منطق المؤامرة الذي يستخدمه النظام، وبعيداً من الاعتبارات الأخلاقية؛ في السياسة سيبدو هذا مشروعاً تماماً، مع أنه يكشف خللاً جوهرياً يؤجل تلاقي المصالح بين الشعب السوري وأصدقائه المفترضين، بل إنه يلتقي بالضبط مع خشية السوريين من قدرة النظام على تدمير الدولة قبل سقوطه.

قلما وضعت اشتراطات على ثورة كما الحال مع الثورة السورية، من المطالبة بتوحيد المعارضة إلى المطالبة بتقديم تعهدات تخص المرحلة الانتقالية وأخرى تخص المبادئ الدستورية لسورية المستقبل، من دون أن تغيب عنها الاشتراطات السياسية الخاصة بكل قوة دولية. ولم تُخفِ أطراف نافذة خشيتها من تكرار أخطائها في ثورات أخرى، كأنه لزام على السوريين أن يدفعوا حتى ثمن تلك التخوفات التي قد لا يكون لها مبرر في الواقع السوري. هكذا يسعى كثير من القوى الدولية إلى «ترشيد» الثورة قبل تمكينها، وبات مألوفاً البحث والتباحث في قضايا وتوجهات تفصيلية يُفترض أن تُترك لعملية تحول ديموقراطي تعد بها الثورة، ويُفترض أيضاً أن الهيئات التمثيلية للأخيرة غير مخوّلة للبت فيها بحكم شرعيتها الثورية الموقتة.

لذا، لن يكون مستغرباً تأخر الدعم الدولي طويلاً عما هو منتظر، فضلاً عن بقائه أدنى من متطلبات الوقائع الميدانية. وتحيل التطورات العسكرية الأخيرة على الحد المنضبط للدعم الذي تتلقاه الثورة، ويتجلى واضحاً بما تلقاه الجيش الحر، فهو كافٍ لاستنزاف قوات النظام، وغير كافٍ لدحرها والسيطرة التامة على مناطق تغدو شبيهة ببنغازي. هنا لا يخفى أيضاً على الجهات الداعمة التفوق المطلق لقوات النظام في الجو، الأمر الذي كان يمكن مواجهته على غرار ما حدث إبان الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، لولا أن الوقت لم يحن بعد على رغم الدمار الذي ألحقه الطيران بكثير من المدن والمناطق الثائرة.

مرة أخرى، وبعيداً من الاعتبارات الأخلاقية، وعــن شبهـــة المؤامرة التي بدأت تجد لها صدى في صفوف الثوار أيضاً؛ ليست المجازر ما يحرّك الضمير السياسي للحكومات إلا بالمقدار الذي يصلح لاستثمارها، وواضح أن القوى الدولية الفاعلة ليست مستعجلة على الحسم، بل تؤثِر إلى حين الإمســـاك بالعصا من المنتصف، فلا هي تسمــح ببقـــاء النظام، ولا تضع ثقلها الحقيقي للإسراع في إسقاطه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى