صفحات العالم

إمّا العالم أو… الفوضى المطلقة/ حازم صاغية

 

 

يُلاحَظ أنّ التركيز السياسيّ والإعلاميّ الراهن لم يكفّ، حيال سوريّا وليبيا واليمن، عن الانزياح من “الثورات” إلى “الفوضى” التي حلّت محلّها. لهذا، مثلاً، حُيّد الحديث عن تونس، التي هي بمنجاة من النزاع الأهليّ، عن حديث “الفوضى”، علماً بأنّها البلد الذي افتتح الثورات العربيّة. ومع أنّ العراق لم يشهد ثورة، فإنّه بات يحظى بكثير من التركيز بوصفه من أبرز ساحات الفوضى في العالم العربيّ. وإلى حدّ ما يحتلّ لبنان، وهو البلد الذي لم يعرف ثورة ولن يعرف بسبب تكوينه الطائفيّ، موقعه الثابت على خريطة التوقّعات والمخاوف من شيوع الفوضى.

بل في إطار هذا الانزياح نحو الفوضى، كثيراً ما يبدو أنّنا تطبّعنا مع الحديث عن “القاعدة” واستعداداتها العسكريّة لصدّ الحوثيّين في اليمن، أو مع الكلام عن نشاطات الميليشيات الشيعيّة غير السوريّة في سوريّا، أو عن الدور الإيرانيّ، المباشر أو المداور، في كلّ من العراق وسوريّا واليمن.

وأيلولة الثورات إلى نظام للفوضى ليست أمراً غير مسبوق في تاريخ الثورات. لكنّ الانتقال هذا إنّما يتبدّى كما لو أنّ وجهته هي إنشاء نظام جديد من الفوضى، أو صيرورة الفوضى ذاتها نظاماً للأشياء والعلاقات.

فما من قوّة في بلدان الفوضى تستطيع الإمساك بالوضع وحسم النزاع الدائر والذي تتّسع دوائره ويزداد عمقاً. أمّا القوى الإقليميّة ففي وسعها، إذا حسنت نيّاتها، أن تدير الفوضى، إلاّ أنّها لا تملك من القوّة ما يتيح لها إنهاء تلك الفوضى والانتقال بالمجتمعات المعنيّة إلى أفق مستقرّ بديل.

ما لا شكّ فيه، والحال هذه، أنّ إفضاء الثورات إلى فوضى إنّما يكمن جذره في التراكيب الداخليّة القائمة، بما فيها من عنف الأنظمة وبطشها، وهو عنف شديد القابليّة لمزيد من التصاعد، ومن تفتّت المجتمعات، بل قابليّتها لمزيد من التفتّت. لكنّ أحد الأسباب الأخرى المهمّة وراء ذلك إنّما يقيم في الوضع الدوليّ نفسه. فهذا الأخير هو وحده ما يُعوّل عليه في هذا المعرض. وفي انتظار عودة القوى الدوليّة الفاعلة، هذا إذا أرادت أن تفعل، سيتمادى هذا التعايش الصعب مع الفوضى في أشكالها الكثيرة، بل يُخشى أن يترسّخ نظام الفوضى ويتوطّد.

فكيف ترحل الأنظمة القمعيّة، وهي المصدر الأبرز للأزمات، وكيف تنحلّ القوى المقاتلة والميليشيويّة على أنواعها، وكيف يعاد ترسيم الحدود داخل البلد الواحد، بما في ذلك من رسم العلاقة بين المركز – العاصمة والأطراف، بل كيف يعاد ترسيم الحدود بين بلدين، على ما هي مثلاً حال العراق وسوريّا وقد أطاح “تنظيم الدولة الإسلاميّة” (داعش) الحدود بينهما؟ وهذا من دون أن نتطرّق إلى مسائل جوهريّة كموجات الهجرة والنزوح الكثيفة، داخل البلد الواحد ومنه إلى البلدان المجاورة، أو كالإعمار الاقتصاديّ وقدرته على خلق جاذبيّة اقتصاديّة تستوعب الأيدي العاملة والمرشّحة لدخول سوق العمل. وقبل كلّ شيء آخر وبعده، يبقى السؤال عن استعدادات التعايش داخل البلدان المتحاربة، أو الانفصال بحدود دنيا من العنف والألم.

وقصارى القول إنّنا، وللمرّة الأولى في تاريخنا الحديث، بتنا أمام خيار واحد حارق ومُرّ، وإن كنّا لا نستطيع التحكّم جزئيّاً إلاّ بواحد من طرفيه: إمّا الفوضى المطلقة نظاماً لحياتنا، وإمّا تدخّل العالم الخارجيّ للإنقاذ.

موقع 24

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى