صفحات الثقافة

إنني أضعف من أن أواجه كل هذا الخراب الأفضل أن تبقى الأحلام أحلاماً/ محمد دياب

 

 

اللاجئ الخائب

إذا انتحرتُ، فسأفعل عند الغروب في جو خريفي كئيب. لن يتغير شيء في ذلك اليوم: لا معدلات الأمطار، ولا مواعيد السفر. محطات القطارات ستبقى مزدحمة بالناس، ولن يقف أحد دقيقة صمت حداداً، لا في الشوارع ولا في البرلمانات.

أمّي وحدها تحزن عليَّ، وتبالغ في ذلك. لكنها في اليوم نفسه قد تزيل زوائد الشعر عن حاجبيها. يشعر أخي بالفقدان، مع ذلك يعود ليمارس الحب مع زوجته في المساء. المقرّبون مني يؤجلون سهرتهم، لكنهم يواظبون على السهر في الأيام التالية. أما مارلا، حتى مارلا، فستجد غيري ليملأ فراغها.

الحانات لن تشعر بغيابي، كذلك المسؤولون عن عائدات جاك دانيلز. دوستويفسكي سيخسر أحد مهووسيه. آخرون يقرأون رواياته، لكنها لن تؤثّر فيهم كما أثرت فيَّ. مستحيل. كيم كارديشيان تستمر في نشر صورها، وأخريات يتابعن تقليدها. شركة “آبل” لن توقف إصداراتها. بهدوء تام أغادر هذا العالم، لا أترك فيه أيّ أثر على الإطلاق، كما لو أنني لم أكن قطّ.

لكن، ها أنا ذا في حانة شبه مهجورة. تسألني النادلة البولونية قائلة: مضى على جلوسك ساعة أيها السيد، أتنتظر أحدهم، أم ترغب بشراب ما؟

أريد شراباً يجعل اللاجئ سيداً، يا عزيزتي.

* * *

الله والإنسان

كان يبذل قصارى جهده لبلوغ غاياته. غالباً ما كان يبلغها. لا ليثبت للغير أنه قادر على ذلك، كما يفعل معظم الناس إن لم يكن جميعهم، بل ليلمس تفاهة الغايات كلها. ليؤكد ويتأكد أن لا شيء في هذا الخراب يستحقّ أن يُلتفتَ إليه. أن لا شيء في هذا العالم العبثي يستحق الكفاح.

في خضمّ ضعفي هذا، لم أعد أجد حاجة للضعفاء كي يُثبتوا وجود إلههم بالنظريات المنطقية والبراهين الدامغة. هم محقّون في نظري عندما يكتفون بما يُشعِرُهم به ذلك الإله من هدوء روحي في أشدّ ساعات قلقهم ورعبهم، ليبرّر استمرارهم في توسّله وطلب عونه ورحمته. ذلك الله الذي لولا اعتقادهم بوجوده، لكانوا سُرُّوا وساروا كالمجانين في أرجاء هذا العالم المخيف.

يبدأ الإنسان بنسج الأحلام متى رفض واقعه. كلما كان الواقع أشدّ مأسويةً، كان الإنسان أكثر براعةً في خلق الأحلام. يحلم حتى تصبح الأحلام مخمليّةً تماماً في مخيلته، فيصير أشدّ حساسيةً ويصير واقعه أشد إيلاماً. هكذا ينتهي به المطاف غير راضٍ، حتى لو بلغ مبتغاه. فأحلامه لن تكون أقل بؤساً من واقعه القديم.

* * *

رسالة أمّي

أمّي لم تستهوها التكنولوجيا، ولا الهواتف الذكية. حتى أنها رفضت فكرة الكومبيوتر، وفضّلت إيقاف الزمن في الثمانينات. بالآلة الكاتبة التي اقتنتها آنذاك، ختمت رحلتها مع التطور، وآثرت الحفاظ عليها حتى الآن، مواظِبةً على استخدامها المتكرر.

طوال سنوات اغترابي عن سوريا في دولة مجاورة، كان اتصالي بأمّي من طريق إحدى شقيقاتي، أو أتصل بها مباشرة على هاتفها العادي. منذ ثلاثة أشهر فقط حدّثت هاتفها من أجل الإطمئنان عليَّ أثناء رحلتي المحفوفة بالأخطار إلى أوروبا. بالغتْ في ذلك حتى ظننتُ أنها أصيبت بألالزهايمر لكثرة ما كانت تتصل بي وتعيد الأسئلة نفسها في أوقات متقاربة جداً.

أمس وصلتني أول رسالة منها، مذ برد قلبها بوصولي سالماً.

أمّي، المتخرجة في الأدب الفرنسي، وأحسدها على ثقافتها الغزيرة، لا تزال تفضّل الكتابة بالفصحى حتى الآن. كتبت لي في رسالتها: اليوم عرس أخيك، لكن فرحتي منقوصة للأسف. لقد مضت ست سنوات على غيابك، ولم يبق في العمر أكثر مما مضى. تعوّدتُ على حقيقة أن رجوعك صعب مذ كنتَ في اسطنبول. الآن سأهيئ نفسي لحقيقة أنه بات مستحيلاً. المسافة كبرت إلى درجة صارت معها رسالتي هذه بلا طائل، لكنني لن أتردد في إرسالها.

أنهتْ أمّي نص الرسالة هذه بوجوه ساخرة ضاحكة، لكنها تعتقدها باكية.

سحقاً للتكنولوجبا

* * *

سلام الموت

أولئك الذين يحملون قلوباً حقيقية، لا يستطيعون احتمال الحياة الطويلة. هل فكرتَ يوماً لماذا قلة من الناس فقط يموتون باكراً؟ لإنهم عجزوا أن يكونوا وحوشاً بلا رحمة.

كلما اشتد غباء الإنسان، قويت إرادته. كلما ازدادت معرفته، قلّ كلامه. كلما ازداد فهمه، تضاءلت أحلامه. إن كل ما كنتُ أفعله في حياتي مذ تشكّل وعيي، كانت غايته الوصول الى السلام الروحي والتخلص من الفوضى الداخلية. لكنني اكتشفتُ في النهاية أن لا الهرب من الحقيقة ولا مواجهتها، لا تغيير المكان ولا المكوث في مكان، لا القناعة ولا التذمر، لا خوض المغامرة ولا الخوف منها، ولا أي شيء آخر، يمنحني هذا السلام، ما دمت على قيد الحياة. هذا السلام تحديداً، ثمنه الحياة. الحياة كلها، بكاملها. السلام يكمن في العدم وحده، أو في الفناء. اليأس هو النتيجة الحتمية الوحيدة للوعي.

الحياة غير محتملة لأولئك الذين يشعرون أن الحماسة لا تدفع الإنسان إلا إلى مزيد من الهدم والأخطاء. كل حماسة حماقة.

قاطنو مشافي الأمراض العقلية ضحايا وعيهم الفائض.

يا له من ترف أن تحيا حياة بأكملها مؤمناً بالأباطيل والترهات.

من الأفضل لكل إنسان أن يُبقي أحلامه أحلاماً.

* * *

رسائل إلى مارلا

الحياة صدمة مستمرة، يا مارلا. عزاؤنا فيها استحالة استمرارها.

عزيزتي مارلا: في الآونة الأخيرة لم تصلكِ مني أجوبة عن جميع رسائلكِ. حتى بعض ردودي الخجولة بين حينٍ وآخر، لم تكن مرضية بالمرة. أعلم ذلك. يبدو أنه يصعب على الإنسان الملول احتمال امتلاكه وقته كاملاً. كما يصعب عليه بالدرجة نفسها عدم امتلاكه كامل وقته.

نوبات الهلع التي طالما شكوتُ لكِ منها، الى ازدياد دائم، بخلاف ساعات نومي القليلة أساساً. وهي تقلّ بمعدلٍ يومي، الى درجة انعدامها أحياناً. حتى أنها أصبحت بخلاف أسئلتي الوجودية، المتزايدة المستمرة بلا انقطاع: أين أنا، مَن أنا؟ ماذا أفعل في مكاني هذا؟ ما الغاية من وجودي في هذا العالم؟ حتى أنني فقدتُ كليا، وعلى نحو سريع، القدرة على التكيف مع كل شيء.

عزيزتي مارلا: حينما تنقلب حياتكِ بهذه الشراسة من الجذرية، يستوي كل شي في نظركِ، يزداد هدوؤكِ وفوضاكِ معاً، تكبر رغبتكِ بالإنطواء، الى حد خشيتكِ من لقاء الناس، أو حتى سماع أصواتهم وحكاياهم. الحاجة إلى كتابة الرسائل تبلغ مرحلة النهم، وتغضبين في نهاية كل رسالة لأنكِ تعجزين عن تحديد وجهتها والشخص المناسب الذي ترسلينها اليه. تتذمرين من كل شيء. كل شيء، ما عدا عدم تلقيكِ جواباً عن رسائلكِ.

قدماي ثقيلتان، وجهي شاحبٌ طوال الوقت. أحياناً أعجز حتى عن تحريك أطرافي. الكآبة أشبه بالشلل. أعرف ذلك بالتجربة. رغبتي بفعل شيء ما، شبه معدومة. أنا خائفٌ دائماً. لا أعرف ممَّ. مضطربٌ، ولا أعرف سبباً لاضطرابي. منهمكٌ بالتفكير في المجهول السوداوي بلا انقطاع. صدري مثقلٌ بالأعباء والخيبة. لقد أمضيتُ حياتي كلها متردداً، فاقداً الجرأة على اتخاذ قرار.

أنشد السلام الداخلي، لكنني لا أجد إلا الفوضى. أنا أقرب إلى الميت مني إلى الحي. لا أستطيع احتمال كل هذا الصخب. أرغب بالهرب من هذا العالم، في أسرع وقت ممكن، ونهائياً. لكنني لست شجاعاً بما فيه الكفاية لأفعل.

هل ستتحملين العيش مع جثة مثلي، يا مارلا؟ هل حقاً ستتحملين ذلك؟

ليس الغموض، إنما الخوف وحده ما يمنعني من أن أشرح لك.

البعد يخلق صورة زائفة عن الأشياء والأماكن، وحتى الأشخاص، أصفى أصفياء المرء وأقرب خلاّنه. من المحزن يا عزيزتي أن هذه الصورة الزائفة دائماً وأبداً محبّبة. إن فكرة الإستمرار وحدي تبدو مستحيلة. أحبّكِ قدر ما أنا متعب من هذا العالم ومرتعب من عبثيته وضعيف أمام سطوته وخائف مما يخبّئه لي مجهوله. بل لعلّ هذه المشاعر العنيفة التي في داخلي والهواجس المضنية التي تختلج في رأسي، هي السبب الوحيد في أني أحبّكِ. إنني أضعف بكثير من أن أواجه كل هذا الخراب. أريد أن ينتهي العالم وأنا على صدركِ. كأنني ما زلت جنيناً يا مارلا. كأنكِ رحم أمّي.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى