إنها الحرب أيها الغبي.. إنها الحرب!
(قراءة أولية في سيكولوجية الإنسان المستحمَر)
بكر صدقي
وقعتُ بمحض الصدفة على صفحة فيسبوكية تصلح نموذجاً مغرياً لمتلازمة الاستحمار في الثورة السورية. الصفحة لصحافية معروفة في إحدى الجرائد الرسمية السورية، وهي تنتمي إلى إحدى الأقليات الدينية في سوريا. أغلب المنشورات على صفحتها منقولة من صفحات أخرى مؤيدة للنظام، تتحدث عموماً عن “انتصارات الجيش العربي السوري” الموصوف غالباً بالبطل، على “الإرهابيين العملاء العراعير” الذين تعرض تلك الصفحات بشماتة “وطنية” ظافرة صور قتلاهم الذين “سيعانقون حوريات الجحيم” كما يقول أحد البوستات.
يتصدر صفحة الصحافية “الوطنية” بوستر ملون فيه (من اليمين إلى اليسار) صور حسن تركماني وآصف شوكت وداوود راجحة، ضحايا العملية التي ضربت مكتب الأمن القومي في دمشق وقتل فيها نخبة خلية إدارة الأزمة. وكتبت تحت الصور الآية القرآنية “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون”. وصور بشار الأسد منشورة بكثرة على الصفحة، مرفقة بتعليقات تمجد بطولته ووطنيته وأبديته.
ويخبرنا أحدث البوستات على الصفحة، نقلاً عن صفحة مجموعة موالية، أن قوات النخبة في الجيش العربي السوري دخلت مدينة حلب “لتطهيرها من رجس الإرهابيين” الذين روعوا المواطنين الآمنين ودفعوهم للفرار من بيوتهم (لا تستخدم الصفحة كلمة نزوح أو نازحين). ونفاجأ في بوست آخر بدعوة أهالي حلب لمساعدة أولئك “الخارجين من بيوتهم” هرباً من إجرام الإرهابيين، مع تحديد أماكن مفتوحة للإيواء: بعض المدارس وأحد الفنادق والسكن الجامعي، مع أرقام هواتف لمسؤولين في جمعيات خيرية تعمل على إيصال المساعدات للمنكوبين. مرد المفاجأة هو أن البوست نفسه نشر حرفياً على جميع الصفحات المؤيدة للثورة. إنه لأمر طيب من حيث المبدأ أن يتفق معارضو النظام ومؤيدوه في مدينة حلب على مساعدة الأسر المنكوبة. لكن هذا الاتفاق ينم عن سوء تفاهم عميق لا بد من تركيز النظر عليه.
ينظر كل من المعارضين وقسم من المؤيدين إلى موضوع النازحين نظرة إنسانية، فيمدون لهم يد العون والإغاثة. غير أن كلاً من المعارضين والمؤيدين لا يرى الوضع من المنظور نفسه. ففي حين يحمِّل الأولون النظامَ الحاكم مسؤولية نكبة المنكوبين، يحمِّلها المؤيدون لـ”العصابات الإرهابية المسلحة” التي يتحدث عنها إعلام النظام.
الصحافية التي تصفحنا “بروفايلها” على موقع الفيس بوك، تنتمي إلى فئة خاصة من المؤيدين ظننا أنها انقرضت بعد سنة ونصف من الثورة. أعني تلك الفئة التي تصدق الرواية الرسمية للنظام “من كل عقلها” وبنوايا طيبة من ذلك النوع الذي يؤدي، كما يقال، إلى الجحيم. يمكن تلخيص الحالة النفسية – الفكرية لهذه الفئة كما يلي: الوطن مقدس، وهو فوق كل القيم، وبالأخص قيمة الحياة البشرية، التي انحدرت إلى أسفل السلم. ويتمثل هذا الوطن بالنظام، والنظام ببشار الأسد، الذي يعني إسقاطه إسقاط الوطن وفناءه. أما كم يُقتَل من “العملاء الإرهابيين العراعير” أو من “الجيش الوطني الصامد” فهذا غير مهم. أما كم يدمَّر من البيوت والمدن والزرع والضرع (طبعاً على أيدي الإرهابيين) فهذا أيضاً لا يهم. المهم هو بقاء الوطن، أي بقاء القيادة الحكيمة، التي تقود الوطن عبر أنواء المحيط العاتي إلى بر الخلاص والأمان.
إذن هناك شر محض يريد تدمير الوطن، يتجسد في إرهابيين يقتلون المواطنين الآمنين، وهم عراعير (نسبةً إلى الداعية السلفي الشهير عدنان العرعور) وعملاء لـ”الخارج”. يجب التوقف عند المعاني الثلاث: إرهاب وعرعرة وعمالة للخارج.
مهما كثر عددهم وانتشروا على الجغرافيا السورية، فهم مجرد إرهابيين، يقتلون الناس للذة القتل، لا رادع يردعهم دينياً كان أو أخلاقياً أو وطنياً. لقد باعوا أنفسهم للشيطان. ولا يهم أنهم يتكاثرون كالفطر في كل مكان على رغم أن قوات جيش الوطن ومخابراته قتلوا منهم الكثير واعتقلوا أكثر. كلما قتل منهم عشرة ظهر بدلاً من العشرة ألف. مع ذلك ليسوا سوى إرهابيين، والقضاء عليهم واستئصالهم بات أقرب من حبل الوريد.
وهم عراعير ملتحون حليقو الشوارب يشبهون الأفغان. مسلمون سنّة سلفيون. يكرهون الأقليات الدينية ويستعدون لذبحهم ذبح النعاج ما إن يتمكنوا. لا يغير من هذه القناعة الراسخة خروج آلاف الطلاب في جامعة حلب في تظاهرات سلمية تطالب بإسقاط النظام، تضم طلاباً وطالبات من المحافظين والليبراليين اجتماعياً معاً، ولا اعتصامات المحامين في القصر العدلي الذين طالبوا بإسقاط النظام وحيّوا الجيش الحر. واحد من احتمالين: إما أن هذه التظاهرات فبركة إعلامية محضة من “قنوات التحريض” ولم تحدث أبداً في الواقع، أو أن المتظاهرين تم تضليلهم أو شراء ذممهم بالنقود.
هم إذن عملاء، باعوا ضمائرهم ووطنهم مقابل حفنة من الدولارات. ممن؟ أولاً من السعودية وقطر وباقي دول “العربان” كما يقول إعلام النظام. فئة متخلفة بدائية ومنحطة من العرق العربي أسلمت قيادها للشيطان الأميركي – الصهيوني. وثانياً من تركيا “الإخوانية” – العثمانية عدوة العرب والعروبة. وثالثاً من إسرائيل وأميركا مباشرةً وهما الشيطان الذي لا يحتاج إلى أي تعريف.
ألسنا أمام المخطط “الفكري” لحسن نصر الله نفسه؟ نعم، هو كذلك. لدينا فسطاط خير يتمثل بالوطن السوري المقدس، الذي يتم تعريفه ببشار وماهر الأسد ورامي مخلوف وآصف شوكت وبقية “شهداء خلية إدارة الأزمة” والأدوات التنفيذية العسكرية والإعلامية التابعة لخلاصة الوطن هذه. طبعاً هناك حلفاء لهذا الوطن كحزب الله وإيران وروسيا وآخرين. لكن جوهرة التاج هي بشار الأسد بلا منازع. لذلك نجد بوستاً آخر على صفحة صحافيتنا يحذر من “شبيه بشار الأسد” الذي من المفترض أن يلقي خطاب تنحيه من الدوحة. لقد انتشر هذا التحذير، بعد القضاء على خلية إدارة الأزمة في دمشق، انتشار النار في الهشيم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت التابعة للنظام ومؤيديه، مع روايات متصلة عن أن “الجهات المعادية” التي هي العالم بأسره باستثناء جزر منعزلة من “الشرفاء”، هي بصدد الاستيلاء على ترددات القنوات التلفزيونية التابعة للنظام لبث فيلم عن سقوط دمشق بيد الإرهابيين، يتم تصويره في استوديوات قطر وهوليوود التي صنعت مجسمات لجبل قاسيون ومعالم أخرى في عاصمة الأمويين.
يمكن تشخيص هذه الحالة السريرية كما يلي: انفصال تام عن الواقع، مع شعور باليقين المطلق والحق المطلق والاصطفاف بلا تردد في صف “الوطن” ضد أعدائه في الداخل والخارج. هلع ممن يوصفون بالعراعير، تتم تغطيته بنبرة ظافرة لا ترى غير الانتصارات المتصاعدة نحو “خلاص” نهائي قريب جداً، لا يمكن بلوغه مع ذلك، كما السراب. وكما تتم تغطية هذا الهلع، كذلك يتم التكتم على الجذر الأقلوي له، برطانة لفظية عن وطن يتجسد في شخص غير محصن ضد تصاريف الأقدار، كأن يموت بصعقة كهرباء مثلاً أو جلطة شريانية، أو ارتطام الرأس بشيء صلب بعد السقوط بسبب قشرة موز، أو حادث سير كالذي أدى إلى مصرع أخيه الأكبر وكان السبب في توليه.
من المرجح أن سوريا ستكون، بعد سقوط النظام، بحاجة إلى الكثير من العيادات النفسية لمعالجة حالات غير مشهودة من متلازمة الاستحمار. ومن المحتمل أن تستقبل العيادات السورية هذه مرضى من بلدان عربية أخرى أيضاً، أهمها لبنان، حيث يوجد يساريون وممانعون بوفرة لافتة.