إني جميلة وأنا أموت يا بحر/ سوزان علي
نسينا أن نسمي أوقاتنا السعيدة، لقد تركناها وشأنها تكبر وتغيب. مرة تنسى طريق البيت فتتبع غرباء مثلها هربوا مخافة أن يصيروا عتبة، مرة تلعب مع قطط الوحيدين وتخرمش بمخالبها أيضا على زجاج النوافذ، ومرة تنعس وتدير لنا ظهرها ونحن نحاول أن نتذكر شظايا الضحك الطويل على باب الحانة. كانت تخاف مثلنا أن تلتفت إلى الوراء ولو بالخطأ.
نسينا أن نتخيلكِ أيتها الحرب، قرأنا روايات كثيرة عن أطفال يبيعون الألغام في السهول، ويشترون بثمنها فردة حذاء واحدة، وصفعنا الوجود على وجهه ثم بكينا، سمعنا كثيراً هسيس جلدكِ فوق رسائل العشاق وتنهدنا:
«حبيبتي:
انتقلنا إلى معسكر جديد منذ يومين، لقد نام رفاقي للتوّ، كنت أتقلب في سريري، الشتاء هنا قاسٍ، أكثر مما اعتدناه في قريتنا، أنا بردان ووحيد، دمعتكِ وأنتِ تلقين الوشاح على كتفيك وتغادرين المحطة تجعلني أدفأ، لقد أنقذتني من الموت عدة مرات، نظرتكِ الصافية تلك، أحبك». ظننا أنكِ من كوكب آخر، حيوان خرافي لا يستطيع العيش بيننا.
نسينا ونحن نعلّق المنشفة كل صباح في مكانها، نغلي القهوة في مكانها، نغطي القبلة في مكانها، نتفقد مفاتيحنا ونقودنا ووجهنا في المكان ذاته، نسينا أن نقول لكل أشيائنا الهادئة: تصبحين على خير.
نسينا كالمنفى وهو يرتطم بحفيده ويسأله مكرراً عن الوقت، أن نمسك الحب في منتصف الطريق ونرتمي على كتفه ذليلين لاهثين.
المس قلبي
هل تشعر بنبضي يا حبيبي؟ خذني إلى بيتك الآن، وليكن عمري طريقكَ، ورعشتي سريرك.
لم نودّع أوقاتنا الطريّة، كأنها المرة الأخيرة التي سنراها فيها، لم نسألها يوماً: ماذا تحبين أن نسميكِ؟
– انتظرني قليلا
لقد تأخرنا.
– هل يحتاجون في البحر إلى (هويّة)؟ لقد أضعتُها.
رأيتُ زورقاً للمرة الأولى في حكاية أمي، كان يقل راعية البقر إلى قطيعها على الضفة الأخرى، أذكر أن أمي نامت عندما ركبت الفتاة الزورق، وأذكر أنني أكملتُ الحكاية في منامي، أنا أغمض عيني الآن، أكمل الحكاية فقط، أنا لستُ ميتاً.
أول قصيدة
النجدة موجة أيضاً، إنها كبيرة برغوة صفراء تتسع تتسع تمتد تصل ثم تموت، تليها نجدة أخرى، كم من مرة وثقتُ بالبحر، لقد كان نَمَشي يتفتح بالقرب منه، في صوته كنت أسمع رجلاً يناديني باسمي، لبست خاتم الخطوبة أيضاً على الشاطئ، هنا كتبتُ أول قصيدة وأغمضتُ عيني تحت ضوء القمر وتمنيت أمنية، البحر حقق أمنياتي، لكني الآن أعيدها له واحدة واحدة، طفل أحشائي، ونمش صدري الغامق، أحلام يقظتي القديمة، أنا لست ميتة، فقط ما زلت أكمل أمنياتي.
– من أين جئت؟
من الحرب.
– وهل تركتها وحيدة؟
الوحدة لن تقتل الحرب، كانت تقهقه عالياً وتلعب الشطرنج.
وأنت تغرق يا صغيري،
تذكر هناك ألعاب في أعماق البحر، أتذكر جزيرة الكنز؟ سنرى سفناً قديمة وحوريات بعد قليل.
– (ماما، أنا أخشى هذا العتم).
الماء عجوز طيب، لن أخاف على بيتي وأنتَ في أحضانه يا مفتاحي القديم، كنت أميّ في المدينة الغريبة، نزحتُ وتركتُ خلفي كل شيء، لكني عدتُ من مسافة طويلة عندما سمعتكَ تبكي، والآن سأفتحُ بذاكرتك موتي، جسدك من حديد وجسدي من دمع المشانق العالية في الساحات، لكني أغرق أسرع منك، أترى؟
عطري يتفتت وسط المياه المالحة، يصير عينكَ وأنفكَ وشامة ذراعك الخشن، العطر لا يغرق. في القاع أنتظره أن يغرق ويعود إلي، كما عدت إليك في تلك الليلة الخريفية، كنتُ حزينة ومكسورة، والديون تأكل وجهي ووجه أهلي عندها بعتُ قرط أمي الوحيد، كانت أمي تفرك مكان القرط الخاوي في أذنها قبل أن تموت، بكيتُ كثيراً ودخلت في زقاق لا يعرفني ولا أعرفه، وقتها لم أرغب سوى بالموت، كانت عيناك أجمل من هذه الحشائش العالقة كقرط أمي في أذني، آه لو كنتَ معي الآن، إني جميلة وأنا أموت.
(شاعرة سورية)
السفير