إنْ كنتَ لا بدَّ قاتلي فافعلْها/ فايز العباس
أبكي الآن لا كما يبكي الرجال الذين أضاعوا مُلْكَهم، بل كما يبكي عاشقٌ متمرِّسٌ يرى الحبّ يذوي مثلَ شمعةٍ، غيرَ حاسدٍ الفراشاتِ المحترقات لأنه يدركُ الآن أنهنّ لسنَ أقلَّ بكاءً، فهنَّ أيضا يَبْكِين الضوءَ الذي يخفتُ رويدا رويدا، ويعرفْنَ أنهنَّ مجردُ لوحةٍ فنية يتهاداها الناسُ في مجالس المجاز، ثم تُطوى كأن لم تكن.
أبكي لأنّ الأرض تخفي الأحبةَ بذرةً بذرةً، وأحلم بالقيامة لا لأرى العدلَ يبسط ذراعيه الكبيرتين على الحياة، بل لأرى الذين غادروني وهم ينبتون من الأرض، فتلك فرصتي التي أراهن عليها كما يراهن طفلٌ على عودة أبيه الذي غادرَه ذاتَ حربٍ، ولم يرجع مثل بقية الآباء العائدين.
حين تنتفض حباتُ الكمأة من قلبِ الأرض أشعر أنّ هذه الكمآتِ ليست سوى ضحايا لمّها قبرٌ جماعيّ إثرَ مجزرة طائفية، ويتبادر إليّ الآن تساؤل حول نوعية أو تسمية العِلْم الذي سيدرُس أنواعَ النباتات، ومدى تأثُّرِ كلِّ نبتةٍ بالشعور الأخير للذي شربَتْ جسدَه.
أريد أن أعرفَ حقا أيّ نبتة ستكون تلك التي نَمَتْ من جسدِ الطفلِ الذي ماتَ خائفا مرعوبا، وهو يستنجدُ بأبيه الذي صار جسدُه بركةَ دمٍ طازجٍ، وأمِّه التي استصرختِ اللهَ، ولكنّ الشياطين كانت أقربَ؛ فتناهبتها الضباع الهائجة؟!
أليستِ الأرضُ قبرا كبيرا؟ إذا كانت الإجابة “لا”؛ إذن: أين اختفت البشرية وما أنتجته؟ أما إذا كانت الإجابة “نعم” فلنتساءل: هل نحن في البرزخ؟ وهل وصل السابقون إلى وجهتهم الأخيرة؟
أبكي كما لو أنني أودّ قياسَ المسافات بيننا بما ستشربُه من دمع، فيخرجُ العشبُ الذي تغنّى به الشعراءُ، العشبُ الذي ذرفوا القصائدَ كي ينموَ، ثمّ أطعموه لغزلان الغياب، والغيابُ آفةُ الحبّ وسكينُ النهايات، ها أنتِ ذي تقطعين كعكَ النهاية بسكين الغياب، وتنشدين على المسافة قصائدَ الحبِّ العليل.
يتملَّكُني البكاءُ كأنه العنقاءُ، يفردُ جناحيه فيخيّمُ على الأرض ظلٌّ كبيرٌ، ظلٌّ لطالما اعتقدناه مستحيلا، وانتصرنا لانعدامه، وتغنينا بانهزامه، واستبشرنا بغيابه ما استطاعَ الفرحُ إلينا سبيلا، فكيف تَخَلَّقَ من العدم، وعاث فينا أنينًا حتى صِرنا نتصيّدُ الفشلَ، ونبحث عن الفجيعة، ونتلذّذُ بالانهزامات، ونتغنّى بالحزن؛ *”يا حزن وحياة حزنك ما عرفتك/ جَنَّك مغيّر مشيتك/ حاط ريحة رخيصة كلش/ يا رخيص شكد بجيتك”.
أبكي عارفا أنّ البكاء رسائلُ، وأنّ العيون أنبياءُ ورسلٌ وسعاةٌ وجباةٌ وشياطينُ وثعالبُ وأقلُّ من ذلك، وأكثرُ من ذلك، أو بين بين، كنتُ أقول لها دائما: عيناك ساحرتان، فتتلعثم، وتقولُ لي: عيناكَ ماكرتان، فأردّ: لا كرامة لنبيٍّ في أهله، اليوم أجهش باحثا عن الأحبة متنازلا عن كل الكرامات صارخا كالمجاذيب: *”خذوني إليها ولو حشو الكفن”.
إذا جئتَني يوما قاتلا فلن أستنجدَ بكَ منكَ، ولن أرتجفَ كما يفعل المتمسّكون بالحياة، سأقف مانحا صدري شهيّةَ الريح، واثقا من أنَّ النصلّ الذي بيدكَ هو الأشد فتكا، والأكثر قدرةً على شطر القلب ليخرج الذين يختبؤون فيه، المشهد سيكون قريبا من شطر البحر نصفين متقابلين حتى مشى النبيّ ومن معه، إذا كنتَ لا بدّ قاتلي فافعلها الآن، ولا تؤجلْ سكينَ الغَدِ للغدِ، فالطين الذي زرعناه دما وأظافر عجنته الأمهات، وتحاملنَ على انكساراتهنّ ليبدو عليهنَّ التوازنُ وتقبّلنَ الموتَ كما لو أنه ضيفٌ، وهنَّ يرددنَ: “واجب الضيف إكرامه”.
أبكي لا لأني أضعتُ مُلْكَا كانَ عليّ ألا أفرّط به، ولكن لأن المُلْكَ الذي كان بين يدي انفرطَتْ حبّاتُه كوكبا كوكبا، وأنا أجلس على تلة الكون كما لو أنني غراب لا حيلة لديه، ولم يستفته الخالق حين جعله على هيئته.
*مظفر النواب
*نسيب عريضة بتصرف
العربي الجديد