إيلينا فيرانتي… تلبس طاقية الإخفاء | جرح في القلب، نزيف في النص
أحمد محسن
معظم المقالات التي تتناول حكاية إيلينا فيرانتي (1943ـ مواليد نابولي) سيرةً وأدباً تبدأ على هذا النحو: «لا نعرف من هي إيلينا فيرانتي، لكننا نعرف أنها من نابولي، تكتب باسم مستعار». قد تكون درست في بيزا فعلاً كما تقول في رواياتها، وقد تكون عاشت في اليونان لفترة، لكن المؤكد أن نابولي تركت جرحاً عميقاً في قلبها ونزيفاً في نصوصها.
في مقابلاتها القليلة، التي أجرتها مطبوعة من دون أي تفاعل مباشر مع المحاورين، يروق إيلينا كثيراً أن لا يعرفها أحد، وأن يعرف الجميع كتبها. أخيراً، وصلت روايتها «قصة الطفلة الضائعة» (Storia della bambina preduta)، الصادرة في 2014، إلى قائمة «بوكر» القصيرة هذا العام، مما ضاعف من اهتمام العالم بالكاتبة التي لا وجه لها سوى نصوصها، إلى حد ظهور شخصيات ادعت أنها إيلينا فيرانتي. قبل أسبوعين مثلاً، طاردتها أشباح الهولوكوست، وذهبت «هآرتس» إلى التأكيد أن فيرانتي هي آنيتا راجا، ابنة أحد الناجين من المحرقة. لكن المخيال الإسرائيلي «الخصب»، الذي ذهب إلى الجزم بأنّ راجا هي هوية كاتبتنا، تعرض لنقدٍ لاذع من الناشر الذي نفى الأمر، مطالباً الجميع بالتوقف عن هذه «الحماقات».
في إيطاليا، ظل اسم إيلينا فرانتي موضوعاً على الرف منذ صدور باكورتها الروائية «الحب المتحرش» (1992 ــــL’amore molesto) حتى 2002، موعد ظهور بوحها الثاني «أيام الهجران» (I giorni dell’abbandono) الذي تحول إلى شريط سينمائي لروبرتو فاينزا في 2005). ثمة من يقول إنها استغرقت عقداً كاملاً لتتفحص حشرية الوسط الأدبي الإيطالي، لتتقين تماماً من اختفائها خلف كتبها. في بدايات الألفية الفائتة، ارتفع صوت نسوي معترض ومحق، ضدّ ميل بعض النقاد الإيطاليين للقول إن إيلينا فيرانتي اسم مستعار لكاتب لا كاتبة، تحت ذريعة الشجاعة التي تتميّز بها رواياتها. اختفى هذا الميل سريعاً، بعدما ثبت للنقاد أن أسلوب فيرانتي هو أسلوب امرأة وحسب. غير أن ذلك لم يغلق السجالات والاحتمالات عن هويتها الفعلية. في إيطاليا، ثمة من يقول أيضاً إنها متأثرة بإلسا مورانتي (زوجها ألبرتو مورافيا كان كاتباً هو الآخر)، بسبب التشابه اللفظي بين اسم الأخيرة والاسم الذي اختارته إيلينا فيرانتي لنفسها، إلى جانب التشابه في روح النصوص، خاصةً أن مورانتي كانت قاصةً تحظى بشهرةٍ معقولة في إيطالياً، وتحديداً في الوسط المهتم بالأدب النسوي، وقد كتبت قصصها بين 1948 و1982، بينما تشكل الخمسينيات والستينيات، وصولاً إلى السبعينيات، محطات أساسية في روايات فيرانتي. إنها قصص تتناول حياة النابوليين المعدمة، في ظل الصراعات السياسية والاجتماعية التي سادت المدينة، وبهذا المعنى، هي قصص ليست جديدة، تناولها كتاب إيطاليون معروفون، كإدواردو دي فيليبو، ولويجي بيرانديللو وأخيراً روبرتو سافيانو. تكمن إضافة فيرانتي، في الزمن النابولي الذي تتناوله، وفي شجاعة مفرطة ضدّ الفساد والفاشية والكامورا.
هي امتداد لكارلو ريفي وآخرين ممن كتبوا ضدَ الفاشية والفساد الذي تقوده كامورا
تقول فيرانتي إن الكتاب أقوى من الكاتب: «اخترت، بدلاً من أن يحبسني القراء في الكتاب، أن أحبس شخصياتي في الكتب. هذا تكبّر، وهذا من سمات الكتاب: التكبر والاختلاف. الكتابة ليست عملاً عادياً». لكن الخوف من الكامورا (التسمية المتداولة للمافيا في أكبر مدن جنوب إيطاليا) عامل قابل ليؤخذ في الاعتبار. عامل آخر في هذا السياق، هو اختيارها لسرد حيوات أشخاص قريبين منها، وأماكن يمكن القول إنها شخصية. غير أن هذا ليس سبباً حاسماً، ويبقى السبب الحاسم هو رغبة فيرانتي نفسها بأن تتحول إلى كتاب على رف، بدلاً من أن تكون صورة في صحيفة، من دون أن يلغي ذلك، أن ثمة نقداً يوجه لطفرة الذاتية في رواياتها. هذه الذاتية، شكلّت مدخلاً لكثير من المهتمين للبحث عن هوية فيرانتي الأصلية انطلاقاً من نصوصها. في تحقيق نشرته أخيراً صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الشهيرة، توصل الفيلولوجي (عالم اللغة ومحقق النصوص) الإيطالي ماركو سانتاغاتا بعد دراسته للنصوص، إلى أن إيلينا فيرانتي، هي مارشيلا مارمو، التي ينطبق عليها زمنياً وطبقياً ما ينطبق على إيلينا في «السلسة النابوليّة» لفيرانتي. ذهب إلى «جامعة فيدريكو الثاني» في بيزا وراجع السجلات ودرس الإمكانات الاقتصادية لطلاب الحقبة، خالصاً إلى أن طالبة واحدة في وقتٍ ما كانت من نابولي آنذاك، وهي إيلينا فيرانتي، أو البروفسورة التي تدرّس التاريخ في الواقع، مارشيلا مارمو. إنها جامعة لطلاب الطبقة الوسطى وما فوق، وفيرانتي تكثر في روايتها من النزعة البيداغوجية، مشددة على أهمية التعليم لتجاوز الطبقة السفلى التي أتت منها.
تعززت قناعة سانتاغاتا بعدما اكتشف أن ثمة سلسلة قرابة بين مارشيلا مارمو وكارلو ريفي، مؤلف كتاب «المسيح يتوقف في إيبولي» الذي يناهض الفاشية كنظام متفشٍ. وهذا ما يمكن لمسه أيضاً في كتابات فيرانتي نفسها. خصوصية المجتمع النابوليّ بوجود الكامورا ساطعة في رواياتها. في صقلية يمكن أن تكون المافيا هي ندرانغيتا أو كوزا نوسترا، لكنها في نابولي كامورا الصاخبة. فيرانتي، هي امتداد لكارلو ريفي وآخرين طبعاً، يكتبون ضدَ الفاشية انطلاقاً من موقف أهلي ضدّ النظام وضدّ الفساد الذي تقوده كامورا (هنا يمكن احتمال الخوف عاملاً أساسياً في التخفي). بيد أن عمل سانتاغاتا ليس بالضرورة أن يعني شيئاً. لقد ذهب إلى مارشيلا مارمو محملاً بكل هذه الحقائق، فأبدت الأخيرة استغراباً شديداً، ونفت نفياً قاطعاً أن تكون هي الكاتبة النابوليّة الشهيرة إيلينا فيرانتي.
ليس هناك ما يدعو للتفاؤل بظهورها في حال فوزها بـ «بوكر». يمكن للناشر أن يستلم الجائزة. الذي يقرأ فيرانتي سيستجيب لرغبتها بالتخفي، من دون أن يستطيع كبح رغبة التعرف إليها. توصل النقاد الإيطاليون إلى قناعة بأنّ شخصيتها الحقيقية لا تهمّ، ولو حازت «بوكر» أو «نوبل». المهم هو تلك النصوص القادرة على إيجاد مساحةٍ للجميع بداخلها. كان بعض النقاد الإيطاليين يضربون على الطاولة تفاعلاً مع نصوصها… السرّ في النصوص نفسها!
نابولي الضحية… نابولي الجلاد
أحمد محسن
إيلينا فيرانتي… تلبس طاقية الإخفاء | القول إن سبب نجاح روايات إيلينا فيرانتي هو جلوسها خلف اسم مستعار ليس دقيقاً، ذلك أنّ البوح الذي سنجده في رواياتها ليس بوحاً خاصاً وحميمياً كما تشي التفاصيل، بل صوت يعلو ضدّ نابولي ودفاعاً عنها، صوت باسم المرأة وحذر من تنميطها في الوقت عينه.
في باكورتها «الحب المتحرش» (L’amore molesto/1992)، وكذلك في «قصة الطفلة الضائعة» (Storia della bambina preduta/2014)، سيشعر القارئ أنه أمام اعترافات خالصة، بسبب النزعات الذاتية التي تطغى على السرد، والحبكة القابلة لموازاة الواقع حتى عندما تجمح إلى الخيال جموحاً مدروساً. في أي حال، هذه ليست دعوة لتفحص موازين القوى بين الحقيقة والخيال في مجاز فيرانتي وواقعها، لأن الكاتبة ـ وبحزمٍ شديد ـ لا تترك مجالاً لذلك. ليس سهلاً اللعب مع إيلينا فيرانتي، أو مجاراتها في ألعابها.
في سلسلتها النابوليّة (الروايات الأربع الأخيرة) تدور الأحداث حول بطلتين. إنها روايات تبدو عادية للوهلة الأولى، عن حياتي إيلينا غريكو وليلا شرولو اللتين تلتقيان في سن الثامنة. غير أنهما سيرة مدينة، وفيهما تبدأ نابولي في الخمسينيات، وتستمر في حياة البطلتين وحياة العاديين الآخرين كما لو أنها مدينة أبدية تمتد إلى ما لا نهاية. إيلينا، وليلا، المتعلقتان بالأدب، ستذكران في أكثر من مكان، فما يجمعها يتجاوز الأدب. إنه شغف بحياةٍ أكبر من تلك التي نمت على بساط الفقر الذي ينفلش متعباً فوق سهول جنوب إيطاليا. هذه سيرة مدينة لا سيرة عاديين. هناك في الأزقة المظللة بالتاريخ الحافي، تدور الأحداث. الطبقة العاملة هي البطلة بدورها، تسحق الجميع ويسحقها الجميع. المقاربة الطبقية لا تغيب عن نصوص فيرانتي، وإن كانت تحيكها دوماً بصورة مباشرة وبلا نظريات، ما قد يجعل كثيرين يضعون كتاباتها في خانة الأدب النسوي المركّب. غير أن النسوية هي مقاربة ظل ضرورية، للمقاربة الطبقية الأم، وهذه نقطة قوة، في تلازم المسارين النسوي والطبقي تلازماً بنيوياً، وتظهيرهما في الإطار الأدبي بلا تكلّف. أما الاعتقاد بأن فيرانتي تخفي اسمها الحقيقي لأنها تحب لعبة الاختفاء، أو لأنها «امرأة خجولة»، أو خائفة من الكامورا، ففيه الكثير من الخفة. لا تخفي فيرانتي اسمها وحسب، إنما تحاول بمكر شديد إخفاء قصتها أيضاً خلف قصة ليلا. صحيح أن البطلة هي ليلا، الصديقة المذهلة، كما يقول عنوان إحدى ألمع روايتها (L’amica geniale/2011)، لكنها مثل اسم الكاتبة المستعار نفسه. إنها بطلة مستعارة، فالبطلة الحقيقية هي إيلينا فيرانتي نفسها. إنها عنيدة وقاسية: تفكك المجتمع النابولي طبقة فوق طبقة.
في نابولي، ومن الداخل، تسمّى الكامورا بين أعضائها بالتنظيم. الكامورا مصطلح يرفضه الكاموريون أنفسهم. وفي أدب فيرانتي، الكامورا هي صنو النقد الذي توجه للفاشية، ولموروثها في المجتمع وفي أنظمة الخطاب المحيطة بالمجتمع الإيطالي. وهذا يحتاج إلى شجاعة فائضة عن الواقع، ما دفع بعض النقاد الإيطاليين للقول بأنّ إيلينا فيرانتي هي رجل يختبئ خلف اسم امرأة. لكن سرعان ما فقد هذا الادعاء «الجنساني»، واللا أدبي، شرعيته في الوسط النقدي الإيطالي، خاصةً أنه مشبع بنزعة بطريركية، ترفض أن تكون هذه القوة الأدبية الخالصة المنزوعة تماماً من أي خوف في كتابات فيرانتي هي كتابات امرأة. في أي حال، لا يمكن تجاهل هاجس أساسي أن النساء في رواياتها مشوهات، وأحياناً محطمات من الوسط الاجتماعي الذي يعشن فيه، لكنهن منتقمات، وصوتهن يرتفع تدريجاً، بينما الرجال على أطراف القصص، أو يمكن القول حولها، لكنهم ليسوا موضوعاً رئيسياً على الإطلاق. ومثال على ذلك، توغل فيرانتي في العلاقة بين الام والابنة، ومحاولتها المتكررة إنقاذ نفسها من ثنائية الزوجة ــ الأم، بدعوتها المتكررة للحفاظ على الأنا الأولى المتكونة السابقة للمجتمع والمتمردة عليه. في «الحب المتحرش»، تظهر رغبة والدتها بوضوح بالتخلي عنها، ثم تعود لتنتقم من الأمومة بعد 20 عاماً عن صدور الرواية الأولى، في «صديقتي المذهلة»، عندما تقول إنها رأت جسد أمها دميماً.
تعمل فيرانتي على دفعات. تبوح تدريجاً. لا تتعب. في «صديقتي المذهلة» (L’amica geniale/2011) تنعم ليلا بطمأنينة الثراء، إلى حدٍ ما. وفي «قصة الاسم الجديد» (Storia del nuovo cognome/2012)، تتحول إلى «جاكي كينيدي» على الطريقة الإيطالية. امرأة، star، على الموضة، تنعم بحياةٍ رغيدة، لكنها خالية من أي نكهة فرح. يصيبها الوهن الذي تصفه الكاتبة بوضوح في أحد الحوارات: «لاحظت أنه مهما كافحت، عملت، أو أعلنت كل ذلك، فإنها لا تستطيع الخروج من الحقيقة: منذ يوم زفافها يلازمها شعور بالحزن. شعرت بالشفقة حيالها عندما قالت: وإن كنتِ أفضل مني، أو تعرفين أكثر مني، لا تتركيني».
هذا الجزء من السلسة النابوليّة، يمكنه عده حاسماً. في هذا الجزء، تنقل إيلينا عن مذكرات صديقتها مع زوجها ستيفانو، «الماتشو» و«البزنسمان»: «هل يمكن، لجسدي أيضاً، أن يخرّب يوماً ما، ليس بخروجه من جسد أمي بل من جسد أبي؟ وهل أن كل ما تعلمته في المدرسة عن الحلول، سينتصر بانتصار ذاكرة الحي والجيران مجدداً؟ التغيّرات، الأخلاق، كل شيء سيمرغ في الوحل الأسود. أنا كسيماندر وأبي، فلوغوري ودون آكيلي، اللغة الوقحة والبذيئة للسولاريين، هل سيتكرر كل هذا الذي يحدث منذ قرون، في هذه المدينة الفوضوية والوضيعة؟». ثمة إحالة دائمة إلى نابولي، تعود إليها في «أولئك الذين يغادرون وأولئك الذين يبقون» (Storia di chi fugge e di chi resta/2013)، حيث تسلّط الضوء على نضوج الخطاب النسوي الإيطالي، في ضوء نضوج إيلينا وليلا نفسيهما. تحضر الاضطرابات في إيطاليا أيضاً، وتحضر الألوية الحمراء كإعلانٍ لهيمنة الفوضى.
يمكن الجزم أنّ روايات فيرانتي ليست بوحاً مجرداً، وإن كان البوح سمة أساسية. ما يميّز نصوصها عن نصوص إدواردو دي فيليبو، أو إلسا مورانتي، اللذين تطرقا لنابولي والمرأة بدورهما تطرقاً باهياً، أن الصراخ في نصوصها يصل إلى حد الهلوسة. سرعان ما يتضح أن الهلوسة هي رفض معلن ينبذ الإذعان لوسائل الرفض السائدة. لا تكتفي فيرانتي بالسرد. هذه هي الحال مع أولغا إحدى بطلاتها، ومع إيلينا نفسها، وأحياناً تصير ليلا المتحدثة باسم المدينة ــ السُلطة. وللمناسبة، ليلا، صديقتها الأقرب، هي عنصر لا يقل أهمية عن إيلينا نفسها في النصوص النابوليّة تحديداً، أكثر قوة من المتخيّل، وأكثر ضعفاً أيضاً مما تحتمله الحقيقة.
تحب فيرانتي هذه الألعاب. في الروايات الثلاث الأولى، تطغى الكثافة السردية على التفاصيل، وتستفيض فيرانتي في الشرح. قد يجوز القول إنها مدخل إلى ذاتها، لكنها لاحقاً في الروايات المتبقية ستتجاوز ذلك. سيتضح أن ما تقدمه ليس مجرد رؤية نسوية لصخب الطبقة العاملة في نابولي، بأعين الحرفيين والشيوعيين وأساتذة الجامعات، وطبعاً رجال الأعمال الذين تهاجمهم بضراوة، إضافة إلى الزوجات المحطمات في مجتمع الرجال. إنها تقدّم كل هذا في برواز يسعه الوصول إلى أعين الجميع: صداقتها الطرية مع ليلا، وصداقتهما المقطوعة من شجرة نابولي. كل تلك العلاقات الرخوة بين النساء والمجتمع في صداقة تمتد من الخمسينيات إلى القرن الجديد. إيلينا فيرانتي لا تنظّر ولا تتنبأ.
إنها كاتبة إن كان للكلمة معنى في زمن التحولات الكبرى في الكتابة، في إيطاليا والعالم. وربما لذلك، ليست بطلة روايات فيرانتي امرأة دائماً، البطلة هي نابولي أيضاً. نابولي هي امرأة بدورها، وهي البطلة. تدفعها الكاتبة إلى التمرد، وأحياناً تيأس من خضوعها وتسخر منها. السؤال الذي يطرحه كثيرون عن هوية إيلينا فيرانتي، يمكن الإجابة عنه بلا تردد، في لحظة تخلٍ إيجابية. إيلينا هي نابولي. نابولي هي الضحية وهي الجلاد.
تخبئ في كُمّها ورقة “آس”/ أحلام الطاهر
إيلينا فيرانتي… تلبس طاقية الإخفاء | باريس | تنتمي إيلينا فيرانتي إلى سلالة الحكواتية، أولئك الشيوخ الموقرون الذين يرتلون حكايات ومغامرات مشكوك فيها من ألف ليلة وليلة في الأسواق المراكشية.
تعرفُ كيف تهيئ ضربة مؤثرة، وكيف تخبئ ورقة آس في كُمّها أفضل من السّحَرة الذين يُخرجون مناديل وأرانب. بعد أن تأتي على ذكر شخص عابر (ليس له أي علاقة بالموضوع)، تواصل حكايتها دون أن تعود إلى الحديث عنه، إلى أن تصل إلى منعطف مهم، باف! يظهر ذلك الشخص من جديد ولكن في لقطة قريبة الآن إذا صح قول ذلك، فيسيطر علينا الذهول، وندمن هذه اللعبة. حتى بتنا نقرأ الروايات كي نعرف كيف كُتبت، نقلّبها نفككها ونرتب القطع والأجزاء، نعزل فقرة جانباً، ندرسها وتأتي لحظة نستطيع فيها أن نقول: «آهـ، أجل، ما فعلَته هو أنها وضعت هذه الشخصية هنا ونقلت هذا الموقف إلى هناك لأنها تحتاج فيما بعد إلى…» لكن من حيث لا ندري، نسمح للسحر أن يستولي علينا، فلا نعود نكترث بالخدع والتقنية والمهنة.
في زمن دونالد ترامب، الذي يضع اسمه على كلّ شيء: برج، كازينو، جامعة، لعبة لوحية، كولونيا… وفي عصر التغطية على مدار الساعة وصور «السيلفي» وتحديثات انستغرام والحرص على وضع لوغو على صورة غلاف بسكويت طاف على نهر البوسفور للتباهي والترويج للذات والمفاخرة بالمال ومظهر الشريك والقدرة الجنسية، تمت إزاحة التعاطي مع الأعمال الفنية لصالح النميمة على الفنانين والمشاهير. لكن أولئك الذين حافظوا على سرية هويتهم (باستثناء سارقي البنوك ولاعبي المصارعة في العروض المتلفزة) أجبرونا على إعادة التحديق في المنتج الإبداعي. ليس فقط بانكسي وهنري كارتييه – بروسون في بداياته، بل جي دي سالينجر وتوماس بينشون، وهاربر لي، وتيرانس ماليك وآخرين صمّوا آذانهم عن الضجيج، وفي بعض الحالات، حتى صورهم لم تكن متاحة.
i want to be alone. ما زلنا نتذكر هذه الجملة التي كررتها غريتا غاربو بتضرّع هذياني في فيلم
Grand Hotel، وبعدها أعلنت فيرانتي عن رغبتها ليس فقط في الخصوصية، وإنما في الإمّحاء تماماً خلف اسم مستعار: فـ «الكتب بعد أن تكتب، لا تعود بحاجة إلى مؤلفيها، والكتاب يجب أن يضم بين دفتيه كل أسباب الحياة المستقلة عن كاتبه وإلا فليس هنالك داع لنشره». لكن المطاردات لم تتوقف، كان أكثرها سريالية برنامج صنعه فريق من الرياضيّين والفيزيائيّين المنتمين إلى جامعة «لا سبيانزا» لتحليل رواياتها، وآخرها مقال مضجر في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» طالعنا بداية هذا الشهر، يؤكد كاتبه، الصحافي الاستقصائي الإيطالي كلاوديو غاتي (كتب تحقيقات عن اللاجئين والمجموعات الإرهابيّة الإسلاميّة والبنوك!) أن إيلينا فيرانتي، اسم مستعار لآنيتا راجا التي تعمل مترجمة عن الألمانيّة وتتعامل مع دار النشر التي أصدرت كلّ كتاباتها (Edizioni e/o).
لم يتردد غاتي في مراجعة الوثائق المتعلّقة بالممتلكات العقاريّة لراجا وحسابات دار النشر، ليكشف (لنا نحن القراء؟) أنّها اقتنت بيتاً يتكوّن من سبع غرف في أحد أحياء روما الراقية وبيتاً ريفيّاً في توسكانا، كما اقتنى زوجها الكاتب دومينيكو ستارنوني بيتاً في واحد من أجمل أنهج مدينة روما بمساحة 230 متراً مربّعاً ويتكوّن من 11غرفة. وقد تصل قيمة البيت، وفق التقديرات، إلى مليوني يورو. وليس من باب المصادفة أن تتزامن هذه العمليات العقاريّة مع النجاح المالي الكبير لكتب فيرانتي/ راجا. هذه «النشرة الاقتصادية» التي يكتنفها جو خبيث، تمنعنا من النظر بعيداً. إننا ننظر إلى أقدامنا، ولا نفكِّر إلا في الخطوة الصغيرة التالية.
لنتخيل أن فيرانتي تسكن بجانب الحرفيين والتُجّار والعُمّال المهرة الذين تكتب عنهم بذهن شارد على طاولة حديقة معدنية بيضاء اللون، عليها عدد وافر من الأوراق المتكتلة في مجموعات كأنها فراشات ليلية بجانب نباتات النفل العملاقة وبعض قطع المرجان من بحر «إسكيا». أليس من الأفضل أنْ نرى أوراق اللعب التي تركتها بين أيدينا في «صديقتي المذهلة» و«قصة الاسم الجديد» و«أولئك الذين يغادرون وأولئك الذين يبقون» و«قصة الطفلة الضائعة»؟
تمتزج هذه الرباعية بظلال ما بعد الفاشية، حروب اليمين الإيطالي ضد اليسار، ومرحلة اغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات. تصوغ فيرانتي لغتها الروائية من دون أن تبتعد قيد أنملة عن الصداقة التي تجمع بين فتاتين في نابولي، إيلينا غريكو ابنة بواب البلدية، وليلا شرولو ابنة الاسكافي. تلاحقهما جُمل كالبركار في علم الهندسة، تتبع دوائر، تارة حميمة، وطوراً واسعة وكرويّة، طرفها الحاد المُقحَم في أحياء نابولي الشعبية يشير إلى الخوف والغيرة والإهانة والفرص الضائعة والعنف الذي نضطر إلى ادّعائه لكي نعيش بسلام نسبي. يكفي أن تقرأ تلك الكلمات السوقية بالدارجة النابوليتانية حتى تُصاب بأعراض «توريت»، أو كائناً ما كان اسم ذلك الشيء الذي يجعلك تلوِّح بذراعيك بحركات عشوائية، لأن الكلمات التي أمامك هي ما لا تكتبه وما لا تصفه حتى لنفسك وما تُخفيه على أمل أنه، في يوم ما، قد يختفي.
انتقلت رواية إيلينا فيرانتي «صديقتي المذهلة» إلى المكتبة العربية أخيراً عن «دار الآداب» (ترجمة معاوية عبد المجيد)
مقطع من رواية «الإبنة الضائعة» (La Figlia Oscura)
ترجمة أحمد محسن
إيلينا فيرانتي… تلبس طاقية الإخفاء | استغرقني الأمر أقل من ساعة لأشعر بالتعب وأنا أقود. شعرت بخاصرتي تحترق، عاد الألم، لكني قررت أن لا أهتم. بدأت أشعر بالقلق عندما لاحظت أني لم أعد قادرة على التحكم بعجلة القيادة.
في دقائق قليلة، أصبح رأسي ثقيلاً، وبهتت المصابيح الأمامية للسيارة. فجأة نسيت أني أقود. بدلاً من ذلك، تولد لدي انطباع، أنّي على البحر، في منتصف النهار. كان الشاطئ فارغاً، المياه هادئة، وعلى بعد أمتار قليلة رأيت علماً أحمر يلوح. عندما كنت طفلة، أخافتني أمي بالقول: ليدا، لا يجب أن تسبحي إن رأيتِ علماً أحمر. هذا يعني أن البحر هائج ويمكن أن تغرقي. مع مرور السنوات، بقي هذا الخوف قائماً، وحتى الآن، ذلك رغم أن المياه كانت أشبه بورقة شفافة تتمدد نحو الأفق، لم أجرؤ على الاقتراب: كنت قلقة. قلت لنفسي، اذهبي، اسبحي: ربما هذا العلم منسي هنا. لكني بقيت على الشاطئ، أتفحص المياه بأطراف أصابعي بحذرٍ شديد. كانت أمي تظهر بين الحين والآخر على سطح الرمال المتحركة، صارخةً: ليدا، ماذا تفعلين، ألا ترين العلم الأحمر؟
في المستشفى، عندما فتحت عيني، رأيت نفسي مجدداً على الشاطئ، لجزءٍ من الثانية، وأنا أنظر إليه بتردد. ربما لهذا السبب، لاحقاً، أقنعت نفسي أن هذا لم يكن حلماً إنما إنذار من الخيال استمر حتى صحوت في غرفة المستشفى. أخبرني الأطباء أن سيارتي انقلبت عن الحاجز الفاصل في الطريق، لكن إصابتي ليست خطيرة. كان الجرح الوحيد في جانبي الأيسر، وهو جرح يصعب تفسيره.
جاء أصدقائي من فلورنسا، بيانكا ومارتا عادتا، حتى جيراني. أخبرتهم أنّ النعاس هو الذي قادني إلى طرف الطريق. ولكني كنت أعرف جيداً أن الأمر لم يكن متعلقاً بالنعاس على الإطلاق. كان تعبيراً من جسدي يفوق إرادتي، تعبير يفوق قدرتي على الشرح، ولأنه كان كذلك فعلاً، قررت منذ اللحظة الأولى أن لا أخبر أحداً عما حدث بالضبط. إن أصعب الحديث عن الأشياء هو عن تلك التي لا نستطيع أنفسنا أن نفهمها.
■ ■ ■
عندما انتقلت ابنتاي إلى تورنتو، حيث عاش والدهما وعمل لسنوات، كنت محرجة واكتشفت بدهشة أن الأمر لم يزعجني. على العكس من ذلك، تولد لدي شعور ساذج، بأني في تلك اللحظة قطعاً أتيت بهما إلى العالم. للمرة الأولى خلال خمسة وعشرين عاماً تقريباً، لم أكن قلقة بشأن ضرورة الاهتمام بهما. كان المنزل أنيقاً، كما لو أن أحداً لم يعش هناك. لم أعد مضطرة للتسوق وغسل الملابس، والمرأة التي كانت كانت تساعدنا في الأعمال المنزلية وجدت عملاً براتبٍ أفضل ولم أشعر بالحاجة إلى إحضار أحدٍ بدلاً منها.
الالتزام الوحيد المتوجب عليّ كان الاتصال بهما مرةً في النهار للاطمئنان إلى أحوالهما وماذا تفعلان. على الهاتف تحدثتا على راحتهما، كانتا لوحدهما. أما في الواقع فكانتا تعيشان مع والدهما، وقد اعتادتا على الفصل بين عالمي وعالمه. لقد تحدثتا إليّ كما لو أنه لم يكن موجوداً. أما عن أسئلتي حول حياتهما، فكانتا تجيبان بلكنةٍ فرحة لكنها ماكرة، أو بحسٍ لا يخلو من الغضب أحياناً، أو بنغمةٍ مصطنعة عندما كانتا تتحدثان وحولهما أصدقاء. اتصلتا بي غالباً، بدورهما، خاصةً بيانكا، التي كانت تجمعها بي علاقة متطلبة لكنها فوقية، لمجرد أن تعرف إن كان الحذاء الأزرق لائقاً مع التنورة البرتقالية، أو لأرسل لها سريعاً بعض الأوراق التي تركتها في كتاب، أو لأكون متوافرة لأتلقى اللوم على غضبهما، حزنهما، بالرغم من المحيطات والسماء الواسعة التي تفرقنا. كانت الاتصالات الهاتفية تنتهي بسرعة، أحياناً كانت تبدو اتصالات زائفة، كما لو أننا في فيلم سينمائي.
فعلت ما طلبتاه، واستجبت لتوقعاتهما. لكن المسافة فرضت انعدام أي تدخل مباشر مني في حياتهما، تخلخلت قدرتي على تلبية رغباتهما ونزواتهما، شعرت بقلة المسؤولية، كل الطلبات بدت لي سطحية، كل ما يتعلق بهما بدا لي مجرد عادةً حنونة. شعرت أني تحررت بإعجاز، كما لو أن عملاً شاقاً، انتهى لتوه.
كلمات
العدد ٣٠١٤ السبت ٢٢ تشرين الأول ٢٠١٦
(ملحق كلمات) العدد ٣٠١٤ السبت ٢٢ تشرين الأول ٢٠١٦