صفحات الثقافة

ابق في حلب يا سيدي يا أبا الطيب


بلال شراره

لو كان أبو الطيب المتنبي ما زال حياً فهل كان سيختار البقاء في حلب أو الرحيل عنها؟

رحل أبو الطيب عن حلب احتجاجاً على نقص العدالة لدى سيف الدولة الذي أوغروا صدره على شاعر العرب الكبير الذي لم ينكر على حاكم حلب انه «أعدل الناس إلا في معاملتي». لكنه بالنتيجة أصبح الحاكم «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم»، وانتقل المتنبي إلى غربته ميمماً شطر مصر حيث وقع تحت سلطة كافور الاخشيدي الذي أوجع الشاعر وأحرجه فأخرجه وهو المتنبي القائل: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم».

إذاً، لو قرر المتنبي الرحيل الآن فهو لن يكرر تجربة الهجرة إلى مصر، ليس لأن كافوراً ما زال مقيماً على رأس سلطتها بل لأنه بطبيعته سوف لا يكون مطمئناً إلى حكم «الاخوان»، غير المجرب الواضح النيات ولن يكون مطمئناً بالطبع إلى العسكر فهكذا هم الشعراء.

أين سيقصد المتنبي إذاً لو قرر الرحيل؟

تراه إلى العراق وهو عرف بالتأكيد ان شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري لم يسعفه عمر وتجربته للعودة إلى العراق، وقد سبق وحدثته عام 1991 عن «التحرير» فأصر على ان يسمع الكلمة على أنها «التقرير»، وهو وشوشني إذاك في بيروت انه لا يمكن له ان يقبل بأن يكون التغيير مهمة امبريالية.

أتذكر عدت وسألته عن العراق.

عاد وسألني عن العراقيين؟

قبل «الجواهري» لم يعد «مظفر النواب» صديق عصافير الشوك إلى العراق، وهو منذ ان غادر الرفاق او غادره الرفاق غادر العراق.

إذاً، المتنبي لن يذهب إلى بغداد، ولن يسقط مجدداً قتيل عناده وأشعاره في ساحة مبارزة، أو يشك رأساً على عقب من على حصانه على جسر الكرخ أو شاطئ دجلة.

والمتنبي بالتأكيد لن يأتي إلى بيروت، إذ إنه ماذا سيفعل هنا؟ هل تراه سيأتي ليجالسنا في مقهى «الروضة» أو ليصرف عمره بطيئا بين مقاهي النهار وكافيتريا «البريستول» ليلاً؟

ترى لو جاء فماذا سنقول له وماذا سيقول لنا؟

هل ستقوم وزارة الثقافة بواجبها تجاهه، وتعتبر انه ملكية ثقافية لا يجوز هدمه، او ملعب روماني بائد؟

أقول: سبق ان «لجأ» إلى بيروت خلال الثورات العربية شعراء كثر آخرهم الشاعر السوري الكبير عبد القادر الحصني. غادر منزل خالد بن الوليد في حمص، وتركه ليموت وحيداً «كالبعير» على فراشه وقد أدركه المسلحون من كل صوب. بعضهم يريد ان يصوب المسار وبعضهم ان يصوب على المسار. المهم ان عبد القادر غادر حمص إلى حيث يستطيع تحمل نصوصنا الخارجة عن الموضوع، والتي لا تملك إحساساً بالوقت وبالأحداث وبسوريا.

الآن ماذا ستفعل يا سيدي أبا الطيب؟

وإلى أي مستحيل ستيمم شطر وجهك؟

إلى أين ستركب حصانك؟

من المؤكد أنك لن تذهب إلى تركيا، فأنت أساسا لم تذهب إليها وهي ليست مكاناً للشعر.

أراك الآن تنتقل بين الأحياء الحلبية حتى لا تغدر بك رصاصة أو شظية، وتحاول ان تجد مكاناً آمناً لقصيدتك السرية الجديدة قبل ان تسقط مضرجة بدمها.

أراك يا سيدي ترفع أعلام القصيدة بل أعلام أحزاننا ومرارتنا على سوريا التي نحب، والتي تتآكل وتتبدد قوتها، وتأكلها الرطوبة والقلق والندم والاضطراب.

ابق في حلب يا سيدي أبا الطيب، لعل المتحاربين يراعون حرمة الشعر والتراث واللغة التي هي اللاصق الوحيد بين «كونفدراليات» الطوائف، بل بين الإسرائيليات الآخذة بالتشكل على مساحة القصيدة.

ودمت يا سيدي.

بلال شرارة

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى