ابن خلدون وتهديد أفول المعارضة السورية/ إياد الجعفري
كما يبدأ أفول الدول، حسب الفهم الخلدوني الشهير، بطور “الفراغ والدِعة لتحصيل ثمرات المُلك”، يبدأ أفول الجماعات ابتداءً من الطور ذاته.
في معظم الأحيان، يسير التطور التاريخي وفق حتمية محددة. فكلما أنِس مقاتلون، ل”الدِعة” وتحصيل المكاسب، قبل انتهاء المعركة، كان ذلك إيذاناً بخسارتهم لتلك المعركة.
نظرياً، يمكن إسقاط الكثير من سمات الفهم الخلدوني الخاص بتفسير مراحل وأطوار صعود وأفول الدول، على جماعات المعارضة المسلحة في سوريا، على اختلاف ألوانها.
فمنذ أن قررت معظم فصائل المعارضة السورية، على اختلاف خلفياتها وتوجهاتها الآيديولوجية، الاستيلاء على مساحات جغرافية وديمغرافية، وإحكام السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وفي حالات كثيرة، التشريعية أيضاًـ، على تلك المساحات، وعلى سكانها، تحولت إلى مشاريع دول بالمعنى الخلدوني. وليس بالمعنى المعاصر، بطبيعة الحال.
وما ينطبق على صعود وأفول الدول، حسب الفهم الخلدوني، ينطبق على صعود وأفول تلك الفصائل والجماعات.
مناسبة هذا الحديث ترتبط تحديداً بالمعركة التي اندلعت مؤخراً بين “الجبهة الشامية” وبين فصائل أخرى في شمال غرب حلب، من أبرزها، “أحرار الشام”. وهي مثال يمكن تعميمه على معظم المناطق التي تخضع لفصائل معارضة، حيث تركن معظم تلك الفصائل للمكاسب التي حققتها، وتنسى تماماً أن المعركة الأساسية التي تخوضها لم تنتهِ.
إحدى الحقائق المؤلمة في الثورة السورية، أن معظم فصائلها المسلحة، إن لم يكن جُلّها، قد تحوّل الأمر بالنسبة لبعض قياداتها، إلى ارتزاق، أفضى بغالبية تلك الفصائل إلى “الدِعة”، حسب اللفظ الخلدوني الشهير.
وبخلاف الطور الأول من صعود الجماعات، حيث يكون الظفر بالغلبة دافعاً للحراك المسلح المستمر، يصبح الطور الثاني، طور الانفراد بالمُلك، ومن ثم الثالث، طور “الدِعة وتحصيل الثمرات”، مقدمةً لأفول تلك الجماعات وانهيارها.
وفيما تستعر الحملة الروسية – الأسدية على شرق حلب، تهدأ معظم الجبهات في جنوب ووسط سوريا، وحول دمشق. تركن معظم الفصائل إلى حالة من “الدِعة”. يعزو معظم المراقبين ذلك إلى توجيه إقليمي وربما دولي، يتحكم بالفصائل ويفرض عليها عدم التحرك في حين، والتحرك في حين آخر.
لا شك أن للعامل الخارجي أثره. لكن لا شك أيضاً، أن الركون إلى العامل الخارجي من قبل قادة الفصائل والفاعلين فيها، هو مؤشر يؤكد أنهم يركنون إلى ما حصّلوه من مكاسب، ويخشون خسارتها، لذلك يحرصون على الالتزام بتوجيهات الخارج الداعم لهم، ولا يتحركون إلا وسط مظلة أمان تغطيهم من الخارج، حسب فهمهم، على الأقل.
عدم تمردهم على توجيهات الخارج، بعدم التحرك في جبهات محددة، يؤكد أنهم أُصيبوا بوباء “الدِعة” ووصلوا طور “تحصيل الثمرات”، وركنوا إليه. وذلك هو الطور الذي يسبق مباشرةً دخولهم مراحل الأفول الأخيرة.
في الوقت نفسه، يبدو أن غياب أي حالة ل”العصبية” الجامعة بين تلك الفصائل، رغم حالة القتل والتنكيل والتهجير التي تطال الحواضن الاجتماعية لهم، في محيط دمشق تحديداً، مؤشر آخر على دخولهم مراحل الأفول الأخيرة.
وفيما تواجه حواضن مجتمعية موالية للثورة تهديدات وجودية في أكثر من مكان في سوريا، يجري الكشف والإشارة إلى العديد من قصص الفساد والتجاوزات من جانب قادة فصائل معارضة، تحوّلت الثورة والحرب التي تلتها إلى مصدر إرتزاق لهم.
لكن، بالتوازي مع ذلك المسار التاريخي الذي يُنذر بحتمية أفول تلك الجماعات المقاتلة الميالة ل”الدِعة” وتحصيل المكاسب، يتبدى مسار تاريخي آخر، إذ أن التهديد الوجودي للجماعات البشرية عادةً ما يخلق حراكاً مجتمعياً يُفرز ضوابط لممثلي تلك الجماعات وقياداتها، تجبرها على مواجهة التهديد، أو تستبدلها بقيادات أخرى.
في تطور الاتفاق الأخير بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” في غوطة دمشق، أخيراً، نموذج لذلك المسار التاريخي. فالحراك المجتمعي الذي سبق ذلك الاتفاق حتّم على قيادات الفصيلين الارتقاء إلى مستوى المسؤولية التاريخية. نظرياً على الأقل، حتى الآن.
ومن المُرتقب أن تؤدي شراسة الحملة في شرق حلب إلى مسار مماثل يجبر مختلف الفصائل على تحمّل مسؤوليتها هناك أيضاً. فخسارة شرق حلب لصالح النظام وحلفائه لا تمثل نكسة كبرى للثورة السورية فحسب، بل تمثّل نكسة كبرى لشعبية فصائل المعارضة في أوساط الحواضن الاجتماعية التي تحتويها، قد تهدد تلك الجماعات بالأفول.
يبقى أن غياب حالة من “العصبية” الجامعة لكل الفصائل، على مستوى كامل التراب السوري المحرر، بما فيه، الجنوب ومحيط دمشق، العنصر المُفتقد، الذي إن لم يتم تداركه في الوقت المناسب، فإن عوامل الأفول ستكون أقوى من سواها.
ويبقى للفعل الإنساني كلمته الناجزة في التاريخ. وبمقدار ثقل وطأة الحتميات التاريخية في تجارب عديدة، بمقدار ثقل فعل الإرادة الإنسانية على اجتراح المفاجآت، وتغيير الكثير من المعادلات، شريطة أن يتلافى الشروط الموضوعية للهزيمة.
وفي حالة المعارضة السورية، الشروط الموضوعية للهزيمة تتكثف هذه الأيام. ومضاداتها واضحة للعيان، وقف التشرذم، وتوحيد الصفوف، وتحريك كل الجبهات، والتمرد على كل الأوامر والتوجيهات الخارجية، طالما كانت في غير صالح الداخل.
المدن