“اجتثاث البعث” من الضمير الأخلاقي العالمي
وسام سعادة
من أهم الأحداث “الفكرية” الداعمة للثورة السورية إعادة نشر “المطبوعات الجامعية الفرنسية” لكتاب عالم الاجتماع المغدور ميشال سورا “سوريا – دولة البربرية”. من بين الأسباب الموجبة لهذا التقويم ان هذه الوثيقة التأسيسية لخطاب غربي واعٍ لحقيقة عذابات السوريين هي ان سورا يبدأ أولى دراساته التي يتضمّنها الكتاب بانتقادات جذرية لطريقة تعاطي الاعلام الغربي مع احداث سوريا – ، وخصوصاً مع مجازر حماة في شباط . يعود ذلك اذا ما عدنا الى سورا الى التبريرات نفسها التي نسمعها سواء بسواء من رواد اليساروية أو من مشعوذي الاسلاموفوبيا. من هذه التبريرات ان النظام قمعي صحيح، دموي صحيح، لكن البديل عنه وخيم ولا يبشّر الا بما هو أسوأ، ثم ان قمعية النظام ترجع الى انه غير متكيّف مع المجتمع السوري، وهذا يعني بحسب مجرى هذه التبريرات ان النظام يعمد الى تكييف هذا المجتمع بالقوة لان المجتمع اكثر تخلفا منه وهو اكثر تقدما بل يتبنى ايديولوجيا تقدمية.
بيد انه في بداية الثمانينيات، يوم ادار الكثيرون ظهرهم واعينهم واحاسيسهم واخلاقهم لمجازر حماة، كانت الحجة ايضا هي ان النظام السوري يقاوم “المد الايراني” على طريقته وانه من الافضل ان ترتكب مجازر ابادية في حماة على ان يظهر “خميني جديد” في سوريا. بالتوازي، كانت تصطنع الحجة نفسها لنظام صدام حسين في حربه مع ايران. اليوم، بتنا ابعد مسافة من هذه الاحداث لندرك اولاً ان النظام السوري كان المعني بالتحالف مع الخميني ونظامه، ولو كانت لبنان مساحة للتنافس الدامية بينهما في جولات مشهودة من الحرب اللبنانية في الثمانينيات. أما ايران، فان اسلامويتها التي كانت مستعرة في تلك الفترة، بكافة الدعوات الى تصدير الثورة الى كل مكان من العالمين العربي والاسلامي، لم تمنعها من ادارة الظهر الى اكبر حركة انتفاضية جماهيرية اسلامية بعد الثورة الايرانية، اي انتفاضة “الاخوان” في سوريا. بل وجدت ايران نفسها في خانة التصاهر “المذهبي” مع النظام البعثي ولو طعّم ذلك بمصادر ايديولوجية مختلفة من الجهتين. وكمعاملة بالمثل، قام النظام السوري بالسماح للافواج الاولى من حرس الثورة “الباسدران” بالعبور من الاراضي السورية الى سهل البقاع اللبناني في عز الاجتياح الاسرائيلي للتأسيس لميليشيا محلية سيستقرّ اسمها على “حزب الله”.
طبعاً، الخطاب التبريري وجد في الفترة نفسها، سواء من المنابر نفسها او من منابر مختلفة، انما لاتخاذ طرف صدام حسين في الحرب الايرانية – العراقية، واعتبار انه في هذه الحرب يمثّل التقدّمية والعلمانية وبالتالي قيم عصر التنوير بوجه نظام الخميني عدو التغريب وداعية نشر الثورة الاسلامية في كل مكان، والذي لم يعد يكتفي بتبرير تطبيق الشريعة باسم الحدود التي يفرضها النص المقدس، بل مزج لذلك مع تسويغات ايديولوجية حديثة تمت بذي صلة الى ما يسميه الفيلسوف الايراني المعاصر داريوش شايغان “الماركسية المبتذلة” عانياً بذلك جملة من الصيغ الكلامية التي كانت تتداولها حركات “التحرر” في العالم الثالث في تلك الفترة، ومختصرها ان “الشعوب” لا مكان فيها للافراد، وان التاريخ هو مكان لاقامة الجنة الارضية، او للتسريع ببلوغ جنة سماوية بمواصفات ارضية محض.
معنى ذلك ان التبرير لم يكن في بداية الثمانينيات مقتصراً على التنظير لحافظ الاسد “الاقلوي” ضد حماة “الاكثروية” بل في آن واحد استحضر دفاعاً عن نظامين بعثيين في وقت واحد، مع انهما متعاكسان من الناحية الطائفية لـ”الطليعة” المتسيدة، ومتعاديان من الناحية “الحزبية”.
لقد انطلت المنافقة البعثية على الكثيرين يومها. شارل سان بروا الذي يقدّم نفسه اليوم كخبير في الاسلاميات المعاصرة، كتب مؤلفاً كاملا في الثمانينيات يشرح فيه ان صدام حسين هو “ديغول العرب”.
اليوم، ما زالت هذه المنافقة البعثية تنطلي على صحافيين وكتاب في الغرب. رغم حماة ورغم حلبجة والانفال. ورغم ما يحدث في سوريا منذ عام ونصف العام. واذا كانت هذه المنافقة تجتمع اليوم مع التبرير لاضطهاد اقلية للاكثرية والاقليات الاخرى، فانها كانت منافقة تبريرية لنظامين بعثيين لدودين فيما مضى.
ان استرجاع كل هذا التعاطي الخسيس من قبل الكثيرين من الكتاب والصحافيين الغربيين مع عذابات العراقيين والسوريين، سيكون بالاضافة طبعا الى وعي تاريخي حقيقي لعذابات الفلسطينيين هو المدخل للمراجعة الاخلاقية الشاملة. ما عاد مقبولاً بعد اليوم ان ترى شجرة واحدة من شجرات العذاب في هذا الشرق وتغفل غابات الاضطهاد والمجازر ذات المنحى الابادي.
ان اجتثاث البعث صار يعني اليوم مطلب اجتثاثه من ضمير العالم كله.
المستقبل