احتلال آني إرنو
مها حسن
كلما قرأتُ كتاباً مترجماً إلى العربية، وأعجبني، شعرتُ بامتنان نحو المترجم. إذ غالباً ما يُعامل المترجمون كالجنود المجهولين.
حين قرأتُ الأعمال الكاملة لريلكه، والتي صدرت عن دار الجمل، اعتبرت مقدمة المترجم كاظم جهاد بمثابة بحث إضافي، منفصل، تستحق أن تُطبع في كتاب مستقل، إضافة إلى وجودها داخل فصول الكتاب الشعري. رغبتُ آنذاك التحدث عن جهد المترجِم، كشخص، لا فقط عن العمل المترجَم. لهذا عليّ أن أسجّل امتناني للشاعر المترجم اسكندر حبش على اختياراته المهمة في ترجمة الأعمال الطازجة في السوق الأدبي الغربي. أعمال شديدة المعاصرة، حيث آني إرنو من الكاتبات الإشكاليات في المشهد الفرنسي، وإن ما يدفعني إلى تسجيل امتناني، ليس فقط متعتي في التقاط الكتابة المختلفة، وبالتالي نقل وترجمة هذه الكتابة إلى اللغة العربية، بل وكذلك امتعاضي ـ وهذا موقف شخصي ـ من قيام اسكندر حبش على عدم توقيع مقدماته، ولا حتى عنونة ترجمته بمقدمة المترجم مثلاً، فبالإضافة إلى كون المترجم جندياً مجهولاً، فإن حبش يزاوج في إنكار ذاته كمترجم، مصرّاً على تقديم نص جمالي، مؤمن به، بمتعة وقيمة فنية، من دون أن يهمّه ظهور اسمه في الصفحات الداخلية للكتاب.
ما أن أمسكت برواية الاحتلال، لآني إرنو حتى انتابني إحساسان خاطئان، أدركت خطأهما لاحقاً: الأول يتعلق بحجم الكتاب، والثاني بعنوانه.
لست صارمة كثيراً ، إلا أنني أتوجس من الكتب الصغيرة الحجم. كنت أقرأ ـ قبل الاحتلال ـ كتاباً سردياً لشاعر معاصر، لا يتجاوز عدد صفحاته الخمسين صفحة، وكنت طيلة الوقت، أثناء القراءة، أشعر بعدم جدوى ملء هذه الصفحات، القليلة، بهذه الثرثرة.
أميل، ربما بسبب تأثري المبكر بالأعمال الضخمة الحجم، إلى اعتبار الرواية الحقيقية، تلك التي تتجاوز المئة والخمسين صفحة على الأقل.
حين بدأت بقراءة احتلال آني إرنو.. غُمرتُ بالمعنى.
هؤلاء.. لنقل الفرنسيين مثلاً، أو هؤلاء الذين لا يكتبون بالعربية، يتمتعون بخاصية تثير تقديري. إنهم يكتبون بتكثيف هائل للمعنى، بحث لو أننا مرّرنا الكثير من الصادرات باللغة العربية، على معمل آني إرنو، أو غيرها من هؤلاء الذين يختزلون الصفحات المطوّلة، لأمكن إنجازها في سطور، أو كلمات.
تنتقل آني من مقطع إلى آخر، بحيث تترك للقارئ فكرة جديدة، ومعنى جديداً، في كل فقرة… لا استطراد ولا إطالة، ولا مماطلة.. تكثيف يمنح القارئ غنىً في كل فقرة يذهب إليها.
لم تقم آني بعنونة فصولها، ولا بترقيمها.. تفصلها فقط عبر الفراغ الذي يباعد بين نهاية الصفحة وبدايتها، لنشعر بأننا أمام فصل جديد.
لا يتجاوز حجم كتاب إرنو ستة وخمسين صفحة، إن استبعدنا مقدمة المترجم، إلا أنه يقول الكثير، وهنا عليّ أن انتقل إلى القسم الآخر من خطأ إحساسي الذي انتابني وأنا أمسك بالكتاب: العنوان.
الاحتلال الذي تتحدث عنه آني، قد يحياه أي منا، وبعدة أشكال.. حين يحل عالم شخص ما، محل عالمنا.. حين يتواجد أحد ما بداخلنا، فيسيطر علينا، ويكاد يمحونا.
احتلال آني قامت به الصديقة أو العشيقة الجديدة لصديقها الذي هجرته.
كانت البطلة قد أنهت علاقتها بعشيقها السابق، ولكن ما أن علمت بأن في حياته امرأة أخرى، حتى هيمن حضور تلك “الأخرى” على حياتها، واحتلّ تفاصيل عيشها، والأمكنة التي تذهب إليها، الأشخاص الذين تلتقيهم… صار كل ما يصادفها، مرهوناً بالبحث عن تلك المرأة.
هي الغيرة إذن، وهو عذاب الفقد، وهو الكبرياء، وهي الرغبة في حذف هذا الآخر، والحلول محله… عذابات لا تتوقف، أمام شخصية احتلت شخصية البطلة ـ الكاتبة.
من مقدمة المترجم الشاعر حبش، نعرف أن لآني طريقتها في الكتابة، بحيث تُدخل تجاربها الشخصية، أو سيرتها، في النص الروائي الذي تكتبه، وما يسمى باسم تيار ” التخييل الذاتي”، وقد (تخلت عن كتابة القصة المتخيلة التقليدية ، لتركّز على “الرواية” المستمدة ” أحداثها” من سيرتها، حيث تتقاطع فيها التجربة التاريخية مع التجربة الفردية).
نص غني بتفاصيل الآخر المهيمن والرغبة في الحلول محله. تتصور البطلة مثلاً أن صديقها الذي أشارت إليه دائما بالحرف “دوبل ف”، يستطيع أن يرى برج إيفل من شقة صديقته الجديدة، أفضل مما كان يراه، معها، من شقتها. أنه يحمل إلى عشيقته الجديدة رغيف الخبز عند الظهر، وأن ثيابهما الداخلية مختلطة ببعضها في سلة الغسيل المتسخ، أنهما يشاهدان نشرة الأخبار التلفزيونية معاً، أنهما يأكلان السباغيتي معاً، “يتناولان الفطور الصباحي المشترك”،”حتى فراشي الأسنان الموضوعة في الكأس عينه، كانت تتبدّى لي بمثابة عملية تشبّع متبادل تنعكس عليه، جسدياً، وبطريقة غير محسوسة، إذ ثمة مسحة من البدانة الضبابية تعطيها الحياة الزوجية للرجال أحياناً”.
هو بحث في تيمة الغيرة، حيث تحتل العشيقة الجديدة حياة البطلة، وتملأ تفاصيل يومياتها :(أروع ما في الغيرة أنها تملأ مدينة، العالم، بكائن لا يمكن لنا أن نلتقيه أبداً) ص 23، وتتحول تلك المرأة إلى ساكنة في رأس البطلة: (أحس بأن ليس دماغي من ينتج هذه الصورة، بل إنها تأتي لتنبثق من الخارج. كأن هذه المرأة تدخل وتخرج من رأسي، على راحتها).
يكاد يكون كل منا قد عاش هيمنة هذا الاحتلال، احتلال مارسه شخص ما، أو فكرة ما… أترك للقارئ فقط اكتشاف ما يقوله آخر الكتاب، لمعرفة فيما إذا كان بالإمكان التخلص والتحرر من هيمنة الآخر.. كيف؟ وما هي صلاحية هذا الآخر “الشخص أو الفكرة” بداخلنا، حتى نستعيد تحريرنا لذواتنا.
رواية ممتعة، غنيّة، كتكنيك وكموضوع، يدل اختيارها للترجمة على أفق المترجم في تقييم الأدب، خاصة وأن لحبش باعه الطويل، لا في الترجمات عن بعد، بل بما يمكن تسميته بالاندماج الثقافي الذي يربط بينه وبين ثقافة الآخر المترجَم له، أقصد، الثقافة الفرنسية، حيث العلاقة بين اسكندر حبش والكاتب الفرنسي تربطها حميمية شخصية، تجعل الجسر بينهما ممتداً ومفتوحاً على احتمالات الترجمة لا بمعناها اللغوي فقط، بل بأبعادها الإضافية، التي تمنح تلك الكتابة الجديدة، المنقولة بخط عربي إلى لغتنا نحن، نكهة قراءة النص، وكأننا نفعل بلغته الأم.. أمام ترجمة اسكندر حبش، لا خيانة للمترجم.
تبقى الإشارة إلى أن آني إرنو من مواليد عام 1940 حائزة على جائزة “رونودو” عن روايتها “المكان” في سنة 1948، معظم رواياتها منشورة لدى غاليمار. صدر لها حتى اليوم حوالى سبع عشرة رواية.
المستقبل