اختبار المشروع الأوروبي للمرة الأولى/ مصطفى كركوتي
من تجارب الشعوب الإنسانية الكبرى، ما يتعرّض له راهناً، للمرة الأولى، منذ تأسيسه قبل سبعة عقود، وبعد حرب طاحنة، المشروع الأوروبي المشترك.
فعند التأسيس، قام روّاد الوحدة الأوروبية الأوائل بمبادرة توحيد أكبر عدوّين في الحرب الأولى، فرنسا وألمانيا، واتسعت المبادرة منتصف الخمسينات لتشمل أربع دول أخرى: إيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ، في إطار ما سُميّ «المجموعة الاقتصادية الأوروبية». هذه المبادرة تطورت نتيجة نجاحها الباهر والسريع، لتصبح ما نعرفه الآن باسم «الاتحاد الأوروبي» وفقاً لإعلان ماستريخت التاريخي في 1993، الذي بات يضمّ حالياً 28 دولة لسكانٍ عددهم 510 ملايين نسمة.
وأهم اتفاق شهدته أوروبا الموحدة، «اتفاق شِنْغِن» (نسبة إلى مقاطعة في لوكسمبورغ) في حزيران (يونيو) 1985، الذي بات يضمّ 26 دولة بينها أربعٌ ليست أعضاء في «الاتحاد»، هي سويسرا والنروج وآيسلندا وليختنشتاين، وتقع ستٌ من دوله الأعضاء خارجه، وهي بريطانيا وإرلندا وبلغاريا ورومانيا وكرواتيا وقبرص.
والأهمية التاريخية للاتفاق أنه أسس لوحدة أوروبية غير مسبوقة رخاءً وازدهاراً، بإلغائه الحدود بين أعضائه أمام حرية التنقل والتجارة والمال والأعمال. وهذه التجربة تتعرض حالياً لتهديد الانفراط والتفكك واحتمال العودة إلى حدود الأسلاك الشائكة وإخضاع المطارات لشروط التأشيرات، وربما الفكاك من اليورو وعودة دوله كلٌّ إلى عملته الوطنية.
بعبارة أخرى، مستقبل المشروع الأوروبي تحت الاختبار للمرة الأولى.
الاختبار يكاد يتحول حالة هلع كما عبّر كبار المسؤولين الأوروبيين في اللقاء السنوي المفتوح لمنتجع دافوس. رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس، يقول: «أوروبا قد تفقد ركيزتها التاريخية والمشروع الأوروبي قد يحتضر بسرعة، وكل شيء قد يتفكك خلال أشهر». المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، تلفت: «لا يستطيع أحد التظاهر بأن تكون لدينا عملة مشتركة من دون حرية العبور عبر الحدود». وزير المال الألماني وولفغانغ شويبله، يحذر من انه «إذا انتهى نظام العمل بشنغن، فهذا يعني نهاية أوروبا الموحدة»، أما رئيس وزراء هولندا مارك روتّه، فنبه الى أنه «ليس لدى زعماء أوروبا أكثر من ستة إلى ثمانية أسابيع لإنقاذ شنغن».
الآن هذا الاتفاق، وهو ركن أساسي لوحدة أوروبا، يتم تجاوزه بإعادة الحدود أمام حركة البشر، إذ تم تحذير اليونان أخيراً بأنها قد تُفْصَل من منطقة شنغن إذا لم تسيطر على تدفّق اللاجئين/ المهاجرين عبرها. فهذا التدفّق غير المسبوق ينشر فعلاً إحساساً بالذعر يعبّر عنه علناً كبار المسؤولين في أروقة مبنى بيرليمونت في بروكسل والبوندستاغ في برلين. مارك روتّه كان صريحاً بقوله: «إنه لم يعد في مقدورنا التعامل مع هذه الأرقام بعد الآن»، بعد بلوغ عدد المهاجرين إلى أوروبا في 2015 نحو 1،85 مليون، بينهم 1،1 مليون طلبوا اللجوء إلى ألمانيا وحدها. 45000 لاجئ عبروا الحدود التركية إلى اليونان خلال الأسابيع الأربعة الأولى من 2016.
أفواج المهاجرين الضخمة لا شكّ في أنها تزعزع أسس الوحدة الأوروبية وتعيد الحديث عن السيادة والحدود الوطنية والمصالح العليا، كما تسود قاعات الاجتماعات الحزبية وتسيطر يومياً على نشرات الأخبار وبرامج المناقشة المفتوحة والبرلمانية، بعدما غاب مثل هذا الكلام من الحياة العامة لوقت طويل. ويخشى فعلاً أن تهدد ردود الفعل المختلفة على حركة المهاجرين بإفقاد جلّ السياسات الديموقراطية في أوروبا من ليبراليتها الحيوية لاستيعاب الآخر والتعايش معه، حيث بدأت أصوات اليمين والتطرف العرقي تعلو في بعض نواحيها وتخطف المشهد السياسي من ليبراليي أوروبا إزاء فكرة الوحدة والعيش المشترك. كما بدأت تنتشر حالة تشكيك في الآخر، مثلما يفعل سياسيو وسط أوروبا وشرقها بتوجيه الاتهام إلى ألمانيا، تحديداً إلى مركل (ذات الأصل الألماني الشرقي كما يُلمح البعض)، التي شجعت الهجرة «بتصريحاتها غير المسؤولة»، فيما برلين والمفوضية الأوروبية تصران على أن مواجهة حركة الهجرة من مناطق الحرب والحرمان القريبة من أوروبا «من قيم أوروبا، ويجب أن تكون مسؤولية جميع الأوروبيين».
صحيح أنه اتُّفق على توطين 160 ألف مهاجر على الفور بتوزيعهم على دول الاتحاد الأوروبي، لكن أوروبا أخذت حتى الآن 331 فقط من هؤلاء، فيما قدمت ألمانيا إلى تركيا ثلاثة مليارات يورو لمساعدتها على تنفيذ هذه السياسة، إلا أن أنقرة تتلكأ في التنفيذ في مسعى منها، كما يبدو، للحصول على مزيد من المساعدات وفق ما لمح اليه رئيس وزرائها داود أوغلو أثناء زيارته الأخيرة ألمانيا.
في هذه الأثناء، اتجهت بعض الدول الأوروبية المهمة نحو تطبيق ما تراه مناسباً لها من الخطة. هنغاريا مثلاً، أقامت أسلاكاً على طول حدودها، فيما شيّدت مقدونيا (وهي دولة خارج الاتحاد الأوروبي) حاجزاً حدودياً من الأسلاك المزوّدة شفرات حديدية على طول حدودها مع شمال اليونان.
يحدث هذا بينما تستعيد ألمانيا والنمسا وفرنسا والدنمارك والسويد والنروج إجراءات مراقبة الحدود. وعلى رغم إعلان هذه الدول أن الإجراءات «موقتة»، يُخشى أن يكون تطبيقها في مثابة الخطوة الأولى باتجاه تعليق العمل باتفاق شنغن. صحيح أن المسؤولين يميلون إلى نفي ذلك ويقولون إن الأوروبيين اتفقوا على تنظيم دخول المهاجرين عبر «معسكرات استقبال» تشرف على فرز اللاجئ الحقيقي من غيره، على أساس إعادة من يثبت عدم تأهيله للجوء إلى حيث أتى. فلاجئو شمال أفريقيا من الجزائر والمغرب ليسوا في نظر الأوروبيين، بمن في ذلك الألمان، فارين من مناطق الحروب والاضطهاد كما هي حال اللاجئ السوري أو العراقي مثلاً. هذا من الناحية النظرية على الأقل، لكن لا توجد هناك خطة عملية متماسكة وموحّدة، إذ يصعب تحديد الجهة التي تستطيع إجلاء المرفوضين إلى خارج أوروبا، وتحديد الجهات التي تستقبلهم.
وإضافة إلى العامل الاقتصادي وحاجة بعض أوروبا الى الموارد البشرية، هناك إرث أخلاقي وثقافي ورخائي يميز أوروبا عن بقية أرجاء العالم تحرص بعض دولها، كألمانيا والسويد، على التمسك به والإبقاء على سياسة الأبواب المفتوحة، مقابل أوروبا أخرى توصد نفسها خلف أسوار حدود وطنية ضيّقة. إنه التحدي الأكبر لأهم مشروع حضاري في العصر الحديث.
الحياة