اختبار صعب لسياسة النأي بالنفس
محمد السعيد ادريس
العلاقة التاريخية الاستثنائية التي تربط لبنان بسوريا جعلت البلدين يخضعان، سواء برغبة أو من دون رغبة، لقواعد القانون العلمي المعروف ب”قانون الأواني المستطرقة”، فما يحدث في لبنان يصعب عزل امتداداته وتداعياته عن سوريا، والعكس صحيح، ولذلك كان من باب خداع الذات الركون إلى تمنيات رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي التي أخذت اسم “النأي بالنفس” عن الأزمة السورية الراهنة، خصوصاً في ظل الانقسام اللبناني الداخلي بين طرفي الصراع في سوريا منذ بداية اندلاع الأحداث، وهو الانقسام المرشح للتصاعد مع تنامي مخاطر تحول الأزمة في سوريا إلى حرب أهلية بعد مذبحة بلدة الحولة التي من شأنها أن تنقل العنف في سوريا إلى مستوى خطر وتعزز مستوى الحرب الطائفية .
مشاهد الانغماس اللبناني التدريجي في أتون تداعيات ما يحدث في سوريا، تتوالى عنوة من طرابلس في الشمال إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، الأولى بسبب الاشتباكات المسلحة التي وقعت بين مجموعات مسلحة في منطقتي باب التبانة المؤيدة لحركة الاحتجاجات السورية، وجبل محسن المؤيدة للنظام السوري، على خلفية قيام قوات الأمن في البداية باعتقال الناشط الإسلامي شادي المولوي للاشتباه في تورطه في “عمليات إرهابية” في الوقت الذي يؤكد رفاقه ومقربوه أن الاعتقال جاء بسبب مساندته للاحتجاجات السورية، أما الثانية فهي بسبب الحادثة التي مازالت تفاعلاتها ممتدة ونعني اللبنانيين ال11 المختطفين في سوريا التي أخذت منحى دراماتيكياً بعد فشل أكثر من وساطة بين الخاطفين والدولتين التركية واللبنانية .
أحداث طرابلس راح ضحيتها 15 شخصاً وجرح عشرات آخرون، أما حادثة المخطوفين اللبنانيين فمازالت تداعياتها مفتوحة، ومن ردود الفعل عليها، أنها أحدثت أصداء واسعة في لبنان، وعلى الأخص في الضاحية الجنوبية في بيروت، فقد نزل بعض سكان الضاحية والجنوب والبقاع إلى الطرقات لقطعها، وهوجمت بعض المحال التي يملكها سوريون في الضاحية، واحتجز بعض الشبان الغاضبين عمالاً سوريين في مشهد أعاد إلى الأذهان أحداثاً مماثلة قام بها سكان من الشمال وبيروت والبقاع قبل أسبوع من اندلاعها .
لقد استطاع زعيم حزب الله حسن نصر الله سحب فتيل التفجير، بعد أن وعد بحل مشكلة هؤلاء المخطوفين، وبعد أن وردت أنباء تركية على لسان وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو قال فيها إن المختطفين دخلوا الأراضي التركية، لكن سرعان ما تضاربت الأنباء، وأضحى نصر الله أمام حرج كبير مع أنصاره الذين اعتادوا منه صدقية القول والوعد، وباتت هذه الصدقية أمام اختبار صعب، مع تردد أنباء على لسان المعارض السوري هيثم المالح تقول “إن عملية اختطاف اللبنانيين ما كانت لتتم لو لم يكن هؤلاء قياديين في حزب الله، ولو لم يتم ضبط أجهزة تشويش ومناظير بحوزتهم”، وبنى على ذلك رأيه الذي أعلنه بعدم إطلاق سراحهم، رغم إعلان الشيخ إبراهيم الزعبي رئيس حزب الأحرار السوري، إنهاء مهمته كوسيط في عملية الافراج عن المخطوفين اللبنانيين، لكن الأخطر هو ما ورد على موقع “روسيا اليوم” نقلاً عن “ائتلاف شباب الثورة في حمص ضد بشار الأسد”، أن “سرية المجاهد عمار دادنجي في مدينة اعزاز بريف حلب قامت بإعدام كل الأسرى اللبنانيين”، نافياً أن يكون هؤلاء المختطفون زواراً أو حجاجاً، وإنما “هم ضباط من قسم الاستخبارات لحزب الله، كانوا في مهمة تدريب وتنظيم في ريف حلب، ولم يكن بصحبتهم نساء” .
مثل هذه الأنباء، لو صحت، لكانت كافية لتفجير صراع غير محدود في لبنان من شأنه أن ينقل أزمة سوريا إلى لبنان، في وقت دخل فيه اللبنانيون في حوار السلاح بين “السلاح في الشمال والطريق الجديدة وسلاح حزب الله” بعد أحداث طرابلس، ومثل هذا الحوار بطبيعته لا يخضع لمنطق عقل أو لذاكرة وطن، وفي وقت يعاني فيه لبنان من صدامات المشاريع الإقليمية على أرضه والارتباط العضوي بينها وبين القوى اللبنانية .
لقد كشفت صدامات طرابلس أن التعبئة الداعمة للاحتجاجات السورية إلى تزايد، لكنها كشفت أيضاً أن قدرة حكومة الرئيس ميقاتي على فرض سياسة “النأي بالنفس” إلى انحسار وإلى تآكل، لكن الأهم أنها تكشف أيضاً وجود قدر من التحول في موازين القوى الداخلية مع بروز وجود مسلح في الشمال يتحدى الوجود العسكري لحزب الله في بيروت والبقاع والجنوب .
هذا المشهد يكشف أيضاً عن استقطاب سياسي على الأزمة السورية مدعوم باستقطاب مسلح بين الشمال اللبناني الداعم للاحتجاجات السورية، وبين التأييد الذي يحظى به النظام السوري من جانب حزب الله وقوى سياسية أخرى، وهو استقطاب من شأنه أن يضع قضية “سلاح المقاومة” المطروحة منذ حرب صيف ،2006 أمام تحدٍّ مختلف هذه المرة، بعد أن أصبح هناك طرف آخر يمتلك السلاح، أو جرى تسليحه لفرض توازن في التسليح بين الأطراف المتصارعة، وهو توازن يقول إن الاستقطاب السياسي وتآكل فعالية “سياسة النأي بالنفس” عن الأزمة السورية أمام اختبار شديد الصعوبة هذه المرة .
الخليج