صفحات العالم

اختلال الساعة الكونية/ جون ريتش

 

 

يريد الرئيس الأمريكي باراك أوباما وقتا متسعا لإعادة رسم سياسات إدارته في الشؤون العالمية. والوقت بالتحديد هو ما لا تملك الإدارة الأمريكية متسعا منه اليوم. ضيق الوقت ينتج على الدوام نوعا من الكسل الصباحي. في الصباح تستيقظ واشنطن على أحداث في كل أصقاع العالم وتجد نفسها مضطرة للرد عليها. في وقت سابق، كان الأمر معكوسا تماما، كان وقت واشنطن يسبق أوقات العالم، وكان العالم يستيقظ ليجد واشنطن قد صنعت أحداثا توجب عليه التعامل معها أو الرد عليها.

اليوم تتسم السياسة العامة في واشنطن بأنها تنحو نحو رد الفعل. زيارة مدير الـ’سي آي إيه’ إلى كييف أتت متأخرة جدا. الخطط والأحداث سبقتها كثيرا، ورجل المخابرات المحترف ذهب إلى هناك ليستفهم ويتعرف وليس ليصنع حدثا. واقع الأمر أن الكرملين استغل الزيارة ليوحي أن ثمة مؤامرة أمريكية تحاك في غرف لانغلي المقفلة، وأن السلوك الروسي ليس أكثر من رد فعل على تلك المؤامرات. على أي حال، ليس في وسع إدارة أوباما أن تزيل آثار الحرب الباردة، تلك الآثار التي فرضت اعتقادا راسخا يقضي بشيطنة أمريكا، حتى في صفوف العلمانيين والملحدين. في تلك الحقبة كان من حق أي شعب في العالم أن يكون ثوريا وقادرا على الثورة والتغيير، إلا الشعب الأمريكي. وكانت امريكا تحمل صفة أعداء الشعوب من دون قدرة لديها على الدفاع عن نفسها. الصفة التي ألحقت بامريكا بوصفها عدوة الشعوب هي التي جعلت كثيرين في العالم، يبدون قدرا مرعبا من اللامبالاة تجاه مقتلة برجي التجارة العالميين في نيويورك. كما لو أن العالم يومذاك، الذي لم يكن قد تخلص بعد من قيم الحرب الباردة، والأرجح أنه لم يتخلص منها حتى الآن، رأى في مقتل ألوف الامريكيين في لحظة واحدة عقابا مستحقا للشعب الذي رفض ويرفض الانحياز لقضايا الشعوب.

اليوم، المشهد في وقائعه مختلف، لكن استثمار الوقائع لا يتم على النحو الأصوب. إذا كان ثمة سلوك حربي وسياسي وثقافي يمكن وسمه بمعاداة قضايا الشعوب فهو السلوك الروسي الذي يقود محورا من قطاع الطرق على المعنى الحرفي لقطاع الطرق، لكن تهمة معاداة قضايا الشعوب ما زالت تلصق بامريكا. يبدو أن أوباما نفسه اجتهد منذ ولايته الأولى في محاولة تغيير صورة امريكا هذه. وهي صورة كانت تبدو فجة ومغرقة في عدوانيتها في عهد جورج بوش، لكن أوباما الذي بدأ عهده بخطاب جامعة القاهرة، لم يفطن، ربما، أن حرب سلفه في العراق وأفغانستان أنتجت له أعداء هم أعداء لبعضهم بعضا أيضا. الحملة الامريكية لنشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط أنتجت في العراق تقاسما للسلطة والثروة والخيرات.

ونتيجتها كانت أن تحكمت الطائفة الأكثر عددا (الشيعة) بمقاليد السلطة، وأنتجت أيضا تدميرا نظريا لهيكل الدولة الحديثة (المسخ) التي كانت تمثلها الأنظمة القومية وشبه القومية في المنطقة، وفي مقدمها نظام بعث صدام حسين. ولا بد أن المراقب النزيه شعر على نحو مفجع بخسارتين تاريخيتين يوم قررت امريكا جعل الأفغانيين والعراقيين يتقاسمون السلطة والثروة على أساس حدود الدولة الحديثة، في وقت دمرت فيه دبابات البنتاغون ما تبقى من أسس تلك الدولة الحديثة، وأعادت العراق وأفغانستان حرفيا إلى زمن الخلافة من دون خليفة. والحال، لا يفترض بمراقب مدقق أن يستهجن الاتجاه العام لدى شعوب المنطقة الممتدة من شواطئ الهند حتى شواطئ المغرب، في أن تحاول استعادة مكوناتها الأصلية السابقة على فكرة الدولة أصلا. حين انهارت فكرة الدولة الحديثة بفعل الحملة الامريكية، لم يعد ثمة ملجأ قريب لشعوب تلك المنطقة وحراكها السياسي إلا دولة الخلافة التي شهدت انهيارها مع نهاية الحرب العالمية الأولى (تذكر أحمد داوود أوغلو!). ولو أضفنا إلى هذه الواقعة الحاسمة واقعة أخرى تتعلق بنهوض إيراني مؤسس على ولاية الفقيه والنيابة عن المهدي، وهو نهوض تحول مع السنوات، ولأسباب تتعلق بتدمير بنى الدولة الحديثة، إلى مشروع إمبراطوري من شأنه أن يخلق خصومه وأعداءه على نحو مطرد، فسندرك حكما أن مستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومحيطها الأوسع يتجه على نحو متسارع إلى تبني فكر الخلافة وثقافة الفرسان التي عرفت قرونا من الازدهار والغلبة منذ وطأت سنابك خيل خالد بن الوليد أرض الشام، وحتى خروج الانكشاريين من فيينا.

ما تقدم ليس إلا توطئة للإيضاح بأن تقاسم المكونات الطائفية والإثنية، السلطة والثروة في العراق، على ما اقترحت إدارة بوش الأب كانت تفتقد إلى بعد النظر على نحو مفجع. فحين يتحول الصراع السياسي من صراع بين طبقات وفئات اجتماعية علمانية بالتعريف، إلى صراع بين مكونات طائفية وإثنية، لا يعود ثمة مكان لحدود الدول، حتى أبو بكر البغدادي ببضعة آلاف من محترفي القتل يستطيع الادعاء بأن دولته هي دولة الشام والعراق. والحال، يصبح التقاسم في العراق مجحفا لأنه يستند إلى حدود الدولة الحديثة التي كانت تجمع بين مكوناتها راوبط تختلف اختلافا جوهريا عن الروابط التي تجمع بين أهل العراق اليوم. فما يجمع بين الشيعي الإيراني والشيعي العراقي اليوم هو حكم أوثق بكثير مما يجمع بين الشيعي العراقي والسني العراقي، وحيث أن مشهد الانقسامات الاجتماعية عاد قرونا إلى الوراء، فإن كل تقاسم أو قسمة على أساس حدود الدولة الحديثة – البائدة، بات يشكل غبنا لكل الأطراف من دون تمييز. فلا الشيعي العراقي يرضى بالقسمة، وهو ينظر إلى امتداد جغرافي وبشري يفوق بأضعاف حجم سنة العراق، ولا السني العراقي يرضى بالإجحاف الذي لحق به وهو ينظر إلى القسمة التي جعلته أقلية، في حين أنه قادر على التواصل مع محيطه المذهبي والعشائري ليستقوي بهما على الغلبة الشيعية.

لهذا كله يبدو خطاب باراك أوباما المادح للدولة الحديثة، والساعي إلى تحويل امريكا العولمة إلى امريكا – الدولة مفتقدا إلى اللحم والأسنان معا.

موت الشعب

على خطى حزب الله، تكتسب جبهة النصرة يوما بعد يوم تعاطفا متزايدا من المهتمين بالشأن السوري. والمهتمون بالشأن السوري هم العالم كله إلا أقله. التعاطف يتأتى من مصدرين: اليأس المطبق الذي يحيط بالشعب السوري، وسلوك مقاتليها الذين يظهرون قسوة في المعارك، ولينا في الهدنات. على نحو ما بات لدينا اليوم تشكيلان عسكريان من الفرسان الذين تعود روحية تشكيلاتهم إلى القرون الوسطى. حزب الله وجبهة النصرة. واللافت في ما تبثه جبهة النصرة من صور في الحرب السورية، أنها دائما تظهر مقاتليها أشداء وموفوري الصحة والعزم ومدججين بأسلحتهم الحديثة فوق تلال من الركام والخراب. قد لا يكون الأمر مقصودا بدقة. لكن هذه الصور المبثوثة من بلد كان حتى سنوات ثلاث سبقت يضم بعضا من أقدم مدن العالم التي لم يهجرها ساكنوها منذ آلاف السنين، توحي بمآلات مفجعة. في المقابل لم يتورع نظام الأسد وحلفاؤه عن تدمير المدن بكل ما أوتي من قوة نارية، وتهجير سكانها عن بكرة أبيهم. والحال فإن الذي يحدث ليس أقل من مساهمة أسدية عملية في تدمير ما قامت امريكا بتدميره سابقا في العراق: الدولة الحديثة، التي تستند هويتها إلى مدنها الكبرى وتتمحور عليها. وتستند في استمرارها إلى استقرار الشعب والذود عنه وحمايته. ما جرى في العراق كان تدميرا لفكرة الدولة، وما يجري اليوم في العراق وسوريا على حد سواء هو تدمير لمقومات الدولة بحيث لا يبقى منها ما يمكن التأسيس عليه وإعادة بنائه. كثيرون يقولون إن سوريا السابقة انتهت. وهم محقون، لكن ملامح هذه النهاية هي التي ربما يعجزون عن تخيلها. سوريا التي انتهت هي أرض العمران التاريخية، وسوريا الباقية هي صحراء الفرسان. سوريا التي انتهت هي فنون الشعوب والسلالات التي تعاقبت على عمارتها وغنائها وثقافتها ومطبخها، وسوريا الباقية هي سوريا التي تضم بين قفارها شعبا من الرحل والخيام، وعراء يميت من البرد والجوع، وصرخة الله أكبر واحدة يقولها المذبوح والذابح، المقتول والقاتل، لأن المقتول لم يعد له إلا الله الأكبر، ولأن القاتل يحسب أنه ينفذ إرادة الله الأكبر.

خاتمة لأحزان اليوم: خسارتان

خسرت امريكا احتكارها لساعة الزمن العام، حين تحولت من المهاجم إلى المنكفئ، وحين أرادت أن تبني الدولة وتهمل الإمبراطورية. الإمبراطورية الامريكية قد تكون مجحفة وقاسية وذات مخالب جارحة لمن تمسه، سواء كانت تريد مساعدته أو قتله، لكنها الإمبراطورية الحديثة التي جعلت صمود الدول الحديثة ممكنا وصنعت للمدن الهشة والحداثات المريضة، على حد تعبير آلان تورين، قدرة على البقاء والتناسل. وحين تنغلق امريكا على نفسها لتتحول هي نفسها دولة، فإن الخراب هو ما يعم عمران العالم، من شبه جزيرة القرم مرورا بالشيشان وصولا إلى سوريا فاليمن. وخسرت شعوب ما وراء البحار أهميتها وضرورتها التي اكتسبتها منذ أكثر من قرنين، وتحولت عبئا زائدا على الإمبراطوريات الآتية من القرون الوسطى. ولم يبق في هذه المنطقة المشتعلة بالنار والحديد شيء قادر على البقاء غير الفرسان وخيولهم التي تكره العمران ولا تحسن الخبب إلا على الأرض اليباب. وعلى هاتين الخسارتين المفجعتين ينبغي علينا أن نؤسس من الفراغ الكلي أملا ورجاء.

‘كاتب أمريكي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى