صفحات مميزةميشيل كيلو

ادعاء حماية المدنيين بالسلاح ولغة التخوين


ميشيل كيلو

لعب قوم محدد بعواطف الناس وبالمسألة السياسية السورية باسم حماية المدنيين. ثم، فجأة قُسم هؤلاء السوريون إلى فريقين: واحد يريد حماية المدنيين، وآخر ضد حمايتهم. أما الفريق الأول، محب السوريين والمطالب بحمايتهم، فالغريب أنه لا يجد له دورا في حمايتهم غير مطالبة الخارج بإنجاز هذه المهمة، لذلك يطالب بتدخل عسكري دولي يحقق هذا الغرض النبيل. بينما يعارض التيار الثاني، الخائن بطبيعة الحال، التدخل الدولي لسبب وحيد هو أنه لا يريد حماية السوريين، بل يريد موتهم على يد النظام.

هل هذا الطرح صحيح وهذا التصنيف حقيقي؟

أولا، ليس هذا التصنيف صحيحا بالمرة، فالذين يعارضون التدخل الأجنبي لا يفعلون ذلك لأنهم لا يريدون حماية المدنيين السوريين من بطش النظام، بل يتعين موقفهم من الخارج باعتبارات لا تتعلق إطلاقا بالمدنيين وحمايتهم، وإنما تمليها حسابات سياسية إستراتيجية تتصل قبل كل شيء بإمكانية التدخل العسكري الأجنبي، وما إذا كان هدفه هو حقا حماية المدنيين، وما إذا كان سينجح في حمايتهم فعلا، في حال كان هذا هدفه، وما هي المدة الزمنية التي ستكون ضرورية لحماية السوريين وبأية وسائل وقوى سيتم إنجاز الحماية؟ ماذا سيصير باستقلال سوريا، وهل ستبقى دولة موحدة ومجتمعا واحدا، أم أن التدخل سيؤدي إلى تفككها وسيدفع مجتمعها إلى الاقتتال الأهلي؟ هل لدى المطالبين بالتدخل العسكري الدولي من ضمانات حيال هذه القضايا، ومن قدرة على تطبيق هذه الضمانات في حال كانت موجودة، علما بأن العالم لن يسفح دماء أبنائه ويبعثهم إلى الموت حبا بالسوريين وحقنا لدمائهم، وأنه ليس بحاجة إلى من يدعوه للتدخل، فلو أراده لما سمح لأحد بمنعه عنه، بما في ذلك مجلس الأمن، بدلالة التدخل العسكري الأميركي في العراق، الذي تم ضد إرادة معظم دول العالم، بما في ذلك ثلاث دول عظمى أعضاء في مجلس الأمن الدولي؟ أخيرا، من يضمن أن تدخلا هذه أبعاده ومواصفاته سيقتصر على حماية المدنيين، ومن يكفل أن سوريا ستبقى بعده على ما كانت عليه قبله، وأن إسرائيل لن تكون شريكة في القرار مع الدوائر التي ستحدد أهداف التدخل ومراميه ومجرياته وأغراضه النهائية؟ أخيرا، هل حدد هؤلاء معنى التدخل وحدوده ومجرياته، وما هو دورهم في تخطيطه وتنفيذه والإشراف عليه، ومن سيكون لديهم الحق في فعل أي شيء حياله، إذا كانوا يطلبونه دون قيد أو شرط، بل ويرتمون على أقدام العالم طلبا له بالطريقة التي يريدها؟ ثم، ماذا فعل المطالبون بالتدخل بذريعة حماية للمدنيين، لحماية مواطنيهم، وهل يجوز أن يقتصر دورهم في حمايتهم على مطالبة العالم بفعل ذلك؟ ماذا فعلوا كي يحققوا مصالحات وطنية بين السوريين تجعلهم طرفا واحدا وليسوا أطراف متنابذة، وكي يحولوا بين النظام وبين التلاعب بتناقضاتهم وخلافاتهم، ويشجعوا المحايدين من المواطنين، وهم كتلة هائلة العدد تتألف أساسا من أقليات خوفها النظام من الأغلبية، على المشاركة في الاحتجاج والثورة؟ وماذا فعلوا كي يحجم الجيش أو أعداد كبيرة منه عن قتل المدنيين، ويسهم بسلوكه في صيانة طابع الحراك الشعبي السلمي ومطلبه الخاص بالحرية والمواطنة والعدالة والمساواة؟ إنهم، بكل صراحة، لم يفعلوا شيئا من هذا، وهم يغطون تقصيرهم بصراخ عاصف يطالب بتدخل عسكري خارجي لا دور لهم فيه، ولا قدرة لهم على تحقيقه، ولا يعرفون من سينفذه، ولن يشاركوا في التخطيط له أو في تنفيذه… الخ، ويغطون على فضيحتهم بتقسيم السوريين إلى وطنيين يريدون حماية المدنيين وخونة يرفضون حمايتهم.

إذا كان ما سبق قوله صحيحا، فمن يكون خائن الشعب: هل هم المطالبون بحماية المدنيين عن طريق تدخل خارجي أم الذين يرون في الداخل قوة الحماية الرئيسة، ويطالبون بتنظيم وتكثيف الفعل النضالي الشعبي، وبكسب الحياديين للحراك، من أجل زيادة الضغط على النظام وجيشه وأمنه، وبسحب وسائل وأدوات النظام من يديه، التي يلعب بواسطتها بوحدة المجتمع والشعب واستقلال الدولة، دون أن ننسى أنه كان أول من استدرج تدخلا خارجيا هو الإيراني، دون أن يؤدي ذلك إلى حماية المدنيين بل إلى زيادة قتلهم بالجملة.

تحيل مسألة حماية المدنيين إلى قضية فائقة الأهمية هي التالية: هل الداخل أم الخارج هو ساحة الفعل الرئيسة بالنسبة إلى الثورة السورية؟ وهل الداخل مجرد عامل مساعد للخارج، يستحسن أن يعيّر نضاله على استدرار شفقته وتحريك ما يكفي من عواطفه للتدخل، أي للتضحية بأبنائه من أجل السوريين، أم العكس هو الصحيح، فلا دور للخارج إلا إذا كان دورا مساعدا للداخل، ويتم بدلالته وخدمة لمصالحه؟ مرة أخرى: قد تغطي المتاجرة بحماية المدنيين، التي سأبين لاحقا وظيفتها السياسية الحقيقية، أخطاء السياسة وتمثل خيانة حقيقية للدم السوري، الذي لا نفعل شيئا لحمايته غير المطالبة بتوسيع العنف من خلال تدويله، ووضع قضيتنا في يد الغير، بالطريقة التي تحلو له وتخدم مصالحه.

تسليح الحراك

هناك إذاً سلاح وسلاح، حماية للمدنيين واستباحة لحياتهم وللبلاد باسم حمايتهم. أنصار السلاح يعادون السلمية ويعلنون إفلاسها ويقولون باستحالة تحقيق الانتصار على النظام بغير السلاح والعنف الذي يظنون أنه المعادل الوحيد للقوة. وعندما يذكرهم أحد أن جميع إنجازات الحراك تحققت بالسلمية، ينكرون ذلك، أو يقولون إنها كانت مفيدة في الماضي، لكنها لم تعد اليوم كذلك. يرفض هؤلاء سلمية الحراك كي يرفضوا أمرين متلازمين: الحرية كهدف جامع له، والوحدة الوطنية كحامل جمعي لا يتحقق هذه الهدف إلا بواسطته. فهم يحبون السلاح من اجل أمرين مغايرين تماما لقيم الحراك الأصلية، هما: الطائفية وتاليا إقصاء المختلف. إنهم يفتقرون إلى برنامج سياسي خاص يخاطبون الشعب من خلاله، وليس لديهم غير ما يقوله الآخرون، لذلك يعتقدون أن أفضل طريقة لكسب الشعب هي إدارة خطاب مذهبي لا يحتاجون معه إلى شروح وتفسيرات، يمشي عوام المجتمع الأهلي وراءه كالأغنام، وينفذون بحماسة كل ما ينتظر أو يطلب منهم تنفيذه.

بمرور الوقت، سيقف المجتمع الأهلي أو قطاعات واسعة منه وراءهم، وبما انه الحامل الحقيقي للحراك المعادي للنظام، فإن كسبه سيلعب دورا كبيرا في حسم أوضاع ما بعد النظام، وسيمكن أصحاب هذه الحسابات من التحول إلى قوة رئيسة إن لم يكن وحيدة في الشارع، على غرار ما حدث في مصر، مع أنهم لم يكونوا شيئا يذكر فيه عند بدء الانتفاضة، وها هم، بعد مرحلة تم خلالها حقنهم إلى داخل سوريا من خارجها، بجهود متنوعة تركية / قطرية أساسا، يتولون بأنفسهم إدارة عملية توطنهم داخلها، بمعونة سياسات وشعارات معاكسة تماما لمطالب وشعارات الحراك المدني والديموقراطي، فلا سلمية ولا حرية ولا شعب واحد، بل شحن طائفي وسلاح وتمييز بين المواطنين، وتغطية هذا كله بذرائع شفافة مثل حماية المدنيين والدفاع عن الشعب. واليوم، وقد انتشر السلاح في كل مكان، ويكاد يختلط الحابل بالنابل، وأنتج العنف الرسمي ما توقعناه من عنف مضاد، لا يبقى غير إيجاد المبررات المطلوبة لاستخدام هذا العنف سبيلا رئيسا في الحراك والنضال. وهل هناك ما هو أكثر قدسية من حماية المدنيين الأبرياء من بطش سلطة لا حدود لبطشها وقسوتها؟

ليس السلاح مكرسا لحماية المدنيين، بل لكسب نفوذ شعبي، وبالتالي سياسي، على حساب دعاة الحرية وتاليا النزعة السلمية، وهم جميعهم من القوى العلمانية أو غير الدينية، الذين لعبوا الدور الأول في إعداد الشروط الفكرية والمجتمعية والسياسية المناسبة لانفجار الانتفاضة، بينما غاب غيرهم، ممن دخلوا الساحة أول الأمر، باسم الحرية والمدنية والسلمية، ثم انقلبوا عليها كأهداف وكشعارات، وتحولوا إلى السلاح والتمييز الطائفي والعنف والمطالبة بالتدخل العسكري الخارجي.

أليست هذه المفردات هي التي تظهرهم بمظهر من يدافع بإخلاص عن الشعب والمدنيين الأبرياء؟ والآن: أية سوريا حرة أو مدنية ستنبثق عن السلاح؟ وأي شعب موحد سيبقى بعد استخدام السلاح في كل مكان ومن الجميع ضد الجميع؟ ومن الذي سيتمكن من جمعه بعد الانتصار؟ هذه الأسئلة ليست مهمة البتة بالنسبة إلى أنصار السلاح، مع أنها ذات أهمية وجودية بالنسبة إلى سوريا الدولة والمجتمع.

الحل السياسي

ليس هناك ما هو أسوأ من الحل السياسي، لأنه ينقذ النظام. هذا ما ردده عقل معارض طيلة أشهر كثيرة. بل إن جماعة إعلان دمشق وصلوا في هذا المسار إلى درجة اعتبروا معها توحيد المعارضة جهدا يستهدف إنقاذ النظام، لأن أطرافا منها تقول بالحوار والحل السياسي سبيلا إلى تغيير النظام، بينما تقول هي بإسقاطه، دون أن تزيد على هذا الشعار كلمة سياسية أو «ثورية» واحدة تخبرنا كيف ستفعل ذلك: بأية خطط وقوى ومراحل ونتائج، بل وما معنى إسقاط النظام أصلا؟

منذ تلك اللحظة، انقسمت الساحة إلى داعين لإسقاط النظام، هم جماعة الغفور الرحيم، ودعاة حوار معه هم أتباع الشيطان الرجيم. ومثل جميع الانقسامات المفتعلة، ترتب على هذا الانقسام جو طافح بالمهاترات والأكاذيب والسخافات، يشبه أجواء الخلاف المفتعل حول مسألة ملفقة هي التدخل الدولي، الذي ليس فيه أي شيء ملموس غير الخلاف حوله، وما ترتب عليه من ضرر جسيم نزل بالجميع. لو كان النظام قادرا على رسم سياسة صحيحة، لكان الجهة الوحيدة التي أفادت منه. بمرور الوقت، رجحت كفة جماعة الإسقاط رجوحا ظاهرا وقويا على كفة من لم يجعلوه هدفهم المباشر والوحيد، حتى أن شبهة خيانة التصقت بكل من لم يقل بالإسقاط الفوري، أو أراد إدخاله في سياق سياسي يجعله ممكنا بالفعل. كان الإسقاط مسألة غير سياسية، لأنه كان يستبعد حتى مبدأ الحوار، ويجعل القول بالحل السياسي أو بالسياسة خيانة للشعب ولحريته. هذا ما استقرت عليه الحال، وآلت إليه المواقف، التي انقسمت انقساما يوميا ومتزايدا وخلافيا بين القائلين بإسقاط يطاول جميع رموز النظام وأركانه، والذين احتالوا على هذا الشعار بكلمات من جنسه تقول بإسقاط النظام الاستبدادي / الأمني، الذي فهمه دعاة الإسقاط التام والفوري كإسقاط جزئي أو احتيالي، الغرض منه إنقاذ النظام.

هنا أيضا، لعب الخلاف الكلامي دورا فائق الخطورة في مجريات الواقع الملموسة، وألحق ضررا فادحا بوحدة العمل الوطني والمعارض، حتى بدا كأن المعارضة والشعب ينشطران إلى كتلتين: واحدة كبيرة جدا تمسك بيدها المنجل الذي ستجتث به جذور النظام، وأخرى صغيرة تمسك غصن الزيتون وهي تحاول إنقاذ النظام بأساليب لم يستخدمها هو نفسه لإنقاذ نفسه!

ثم فجأة، أصدر دعاة الإسقاط الإجتثاثي المباشر مشروع برنامج سياسي يقول في بنده الأول ب«إسقاط النظام بكافة رموزه وأركانه»، وفي بند آخر ب«تشكيل حكومة وحدة وطنية مع مؤسسته العسكرية لإدارة المرحلة الانتقالية»، وبالتفاوض على هذه المرحلة مع ممثلين له. هكذا تبين أن ما كان يقال عن الإسقاط وعن رفض الحل السياسي، مرحليا كان أم غير مرحلي، لم يكن في حقيقته غير أداة صراع ضد الآخرين تفتقر إلى أي قدر من النزاهة، ليست موجهة ضد النظام وليس هدفها الفعلي غير إقصاء الخصوم من الساحة الوطنية من خلال دمغهم بتهمة الخيانة. إذا كان دعاة الإسقاط يقبلون حلا مرحليا يتعاونون خلاله من المؤسسة العسكرية، فلماذا شقوا المعارضة والشعب، وتخلوا عن سلمية الحراك ودعوا إلى السلاح، وتخلوا عن مبدأ الوحدة الوطنية كحامل للنضال ضد السلطة، وتجاهلوا أو جهلوا إن القول بإسقاط النظام قبل توفر شروطه وموازين قواه يساعده على توحيد قدراته وتعبئة طاقاته وإقناع المترددين من السوريين بأنهم مستهدفون بمصير غامض وخطي، وأن ما خوفهم منه حقيقي وليس وهميا.

في النهاية، عندما حدد دعاة الإسقاط فكرتهم في مشروعهم السياسي تبين أنهم يريدون إسقاط الرئيس، الذي هو شرط أي حل سياسي. لماذا لم يقولوا ذلك منذ البداية، مع أن قوله كان سيوفر على السوريين تضحيات كثيرة ضيعها شعار غائم تبين فيما بعد أن أنصاره لم يكونوا يقبضونه جديا هو «إسقاط النظام بكافة رموزه وأركانه»، لم يبق منه غير تخويف كل عنصر في النظام على نفسه، ودفعه للوقوف إلى جانبه والدفاع عنه باعتبارهم مهددين مثله، بما أنهم مادته البشرية التي يعتبرها الإسقاط مادته السياسية أيضا، مع ما أفضت إليه هذه النظرة من مساواة المجند مع رئيس الجمهورية أو قادة الجيش وأجهزة الأمن، وأدت إليه من شقاق في معارضة كانت بأمس الحاجة إلى الوحدة والتفاهم والحوار وسياسات العقل المفتوح واليد الممدودة.

واليوم، ما زالت هذه المسائل راهنة وتنتظر من يصحح مواقفه منها، كي تستقيم مسيرة الحراك ويسترد طابعه الأول، الذي استمات النظام من أجل القضاء عليه، ومن غير المعقول أو المقبول أن يوجد في المعارضة من يكمل عمله، لأي سبب كان.

هل فات الوقت لذلك؟ لا، لم يفت، لسبب بسيط هو أن وقت العمل الصحيح لا يفوت أبدا!

كاتب وناشط من سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى