استثناءات المشهد السوري
فخر الدين فياض
ربما لم يعرف العالم مشهداً ثوريا يماثل المشهد الثوري في سوريا، عام طويل امتلأت شاشته بمناظر الدم الوطني مسفوحاً على أرصفة القرى والبلدات والمدن، من حوران في الجنوب إلى القامشلي في أقصى الشمال، مشهدٌ حَفُل بجرائم القتل والاغتصاب والاعتقال والتعذيب والتمثيل بالجثث، امتد سنة كاملة ومازال العرض الدموي مستمراً.
ليس الزمن وحده استثنائياً في الثورة السورية، إذ لم يعرف العالم في العصر الحديث ثورة شعبية بهذا الزخم امتدت لأكثر من عام، بدءاً من ربيع أميركا اللاتينية وثوراتها الديمقراطية على أنظمة الاستبداد والفساد والعسكر، مروراً بثورات أوروبا الشرقية على الأنظمة الشمولية وصولاً إلى ربيع الثورات العربية.. جميعها تم حسمها “محلياً ودولياً”بوقت أقل وبكلفة لا تذكر مقارنة بالثورة السورية.
كل شيء يبدو استثنائياً عندنا، الشعب المنتفض بدا وحيداً في مواجهة آلة القمع الجهنمية للنظام، لم يتوفر له الحد الأدنى من الدعم الإقليمي أو الدولي، حتى المعارضة الداخلية “هيئة التنسيق ومن لفّ لفّها” بدت طرفاً “محايداً” يقف في منطقة “محايدة” تكاد تتوسط الشعب والنظام، في حين كانت المعارضة في جميع التجارب الثورية في العالم، تتقدّم الصفوف وتقود الناس نحو أهدافها وتطلعاتها عبر أقصر الطرق وأقلّها كلفة.. لكن المعارضة الداخلية مازالت تُدفع من الشعب لاتخاذ موقفاً يتناسب مع الثورة واحتمالاتها المفتوحة على شتى السبل والاتجاهات.
ومما يدعو للإعجاب ورفع القبعة احتراماً، هو قدرة هذه الثورة الشعبية على تنظيم صفوفها وخلق قياداتها والتنسيق فيما بينهم، وإيجاد مجلسها الوطني الذي يفترض به التعبير عن طموحاتها، والدأب على الدفع بهذا المجلس نحو الأمام، وانتقاده لتصحيح أخطائه، في سبيل طريق أقل كلفة لتحقيق أهداف الثورة، في إسقاط النظام وبناء الدولة الديمقراطية الحرة.
وربما لم ير الكثيرون معنى تكثيف الوعي الشعبي في لحظة تاريخية صنعتها الثورة، بحيث تحقق لدى الثائر “البسيط” حالة من الوعي والنظر في رؤية تحولات هذه الثورة وسيرها الشعبي، أكثر دقة وصوابية من حالة المثقف والمنظّر والأيديولوجي والسياسي الذي احترف “الأفكار” والتنظيرات والسياسة عبر معايير افتراضية، أعتقد أنه غرق في تفاصيلها وتاه في حساباته وتحسبّاته، مقارنة بالرؤية الواقعية لدى المتظاهر الذي يهتف وسط عشرات الآلاف من الناس.
الاستثنائية في الثورة السورية لا تتوقف هنا، وإنما تعرّض هذه الثورة لشتى أساليب القمع والقهر التي نسيها العالم منذ القرون الوسطى بدا استثنائياً أيضاً، إذ لم تعرف ثورات العصر الحديث هذا القتل العشوائي، القصف بالمدفعية والدبابة والحوامات على التجمعات المدنية.. ترافق ذلك مع تنظيم ميليشيات همجية، غرائزية، خارج أي معيار إنساني أو وطني وهي ما يسمى بالشبيحة، اقترفت أكثر الجرائم بشاعة، من القتل والسطو والسرقة والتعذيب والاغتصاب.. وصولاً إلى السبي والتهجير، وهذا امتد لعام دون حسيب أو رقيب، أطلقها النظام وحوشاً لا علاقة لها بالبلاد والعباد.
إن التحالف الإقليمي المغلّف مذهبياً، ممثلاً بإيران وحزب الله وميليشيات مقتدى الصدر، مثّل استثناءً آخر لهذه الثورة، إذ أن ينتفض شعب في سبيل كرامته وحريته، بثورة مدنية فيواجهه حلف “غير مقدس” من الملالي وآيات الله و”معاتيه” المذاهب أمر يكاد لا يصدق، وربما تتجلى هنا عظمة الوطنية السورية التي لم يجرّها هذا الحلف لتنحرف عن مدنيتها وبالتالي تحوّل الثورة إلى بركان مذهبي، فقد بقيت الثورة السورية ثورة مدنية وطنية، يشهد على ذلك ثوار السلمية والسويداء والأكراد.. وشهداء الطائفة المسيحية وناشطو الطائفة العلوية، فضلاً عن اتساع الرقعة الجغرافية لهذه الثورة لتضم أراضي السوريين جميعاً تقريباً.
وربما كان لوجود إسرائيل في المعادلة السورية كبير الأثر السلبي على هذه الثورة، فالأمن الإسرائيلي يعتبر أحد روائز الموقف الغربي، وعلى رأسه موقف أميركا، التي شكّل موقفها معضلة بالنسبة للسوريين، فلم تعرف ثورات العصر الحديث موقفاً دولياً بهذا التباطؤ والتقاعس عن إيجاد حل يحسم هذه “الأزمة”.. وكأن انتقال السوريين إلى دولة ديمقراطية حرة يجب أن يكون في اللحظة التي تفقد فيها سوريا أية قدرة على مواجهة إسرائيل لعشرات السنين في سبيل استعادة أراضيها المحتلة.
ولا بد من التنويه هنا، أن الثورة الوحيدة في العالم، التي حاول النظام نزع سلميتها وتحويلها إلى ثورة مسلحة، كانت الثورة السورية، كي يسوغ النظام لنفسه خيار العنف وشرعنة القهر والقمع بذريعة “مواجهة الإرهاب وعصاباته المسلحة” وبدعوى الحفاظ على “الأمن وحماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم” ومع ذلك ظلّت الثورة تحافظ على سلميتها، رغم تشكل الجيش السوري الحر، الذي مازال حتى اللحظة يدافع عن المظاهرات، ولم ينتقل إلى أخذ زمام المبادرة والحسم، ولا أعتقد أن لديه القدرة على ذلك.. ربما لا يعرف العالم أنه في جميع المظاهرات يُمنع على المتظاهر حمل حجر فضلاً عن السلاح، فالآلاف المحتشدة في أية مدينة أو بلدة سورية يرفضون وجود مسلّح بينهم.. أما الجيش الحر فله أماكن تواجد بعيدة نسبياً عن جموع المتظاهرين.
السوريون ماضون في ثورتهم، رغماً عن هذه الاستثناءات جميعاً، في الجمعة الأخيرة خرج الشعب كعادته التي دأب عليها طيلة الخمسون جمعة الماضية، يهتف للحرية والكرامة وإسقاط النظام، لم ترهبه دبابات النظام ومدافعه، لم يرهبه القتل الذي استشرى وأوغل في قلب المدن، لم يرهبه التهجير والتدمير والخراب، لم يرهبه الغلاء وانعدام الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ووقود التدفئة.. وحتى رغيف الخبز، أصبح نادراً في الكثير من الأماكن.
ومادام الشعب السوري مصراً على التظاهر السلمي، هذه المفردة المقدسة، لتحقيق أهدافه فلن يثنيه القمع والقهر.. وتواطؤ المواقف الإقليمية والدولية، ومحاولات النظام الحثيثة لجره إلى حرب أهلية أو التنازل عن ثورته السلمية وعسكرتها.. إن شعباً مضى يصارع آلة قتل قبيحة، بمدنيته ووطنيته لا يمكن أن يهزمه نظام أو أية قوة عسكرية.. الشعب السوري يستمد حماسه وعزيمته، من شهدائه الذين ودعوا الحياة ولسان حالهم يقول: استعيدوا سوريا، سوريا الحرية والكرامة.