استحقاق العقد الاجتماعي
د . الطيب تيزيني
لم يعد خافيّاً أن العالم العربي أو معظمه، على الأقل، يعيش أزمة بنيوية تتصل بهويته المجتمعية، فلقد جاءت الأحداث في العراق ومصر وسوريا والبحرين والسودان ولبنان وغيرها منذ سقوط بغداد وما قبله، لتُظهر أن ناراً تكمن تحت الرماد، وتخصيصاً تحت رماد الاختلافات الطائفية والإثنية والمذهبية وغيرها.
ومنذ وقت قريب ظهرت علائم ذلك في مصر، وهي تظهر الآن في سوريا، ولكن بطريقة قد تكون مخترقة بالمخاطر الكبرى، ويُشتم من ذلك، خصوصاً، تلك الرائحة، التي تشي بما هو على أرض الواقع باسم الدعوة إلى مشروع تقسيمي جديد، بعد مشروع “سايكس – بيكو” في العقد الثاني من القرن العشرين، وكأن الأمر يفصح عن نفسه في المقولة السياسية التفتيتية الشهيرة، وهي تفتيت المفتَّت وتجزئة المجزأ.
والملاحظ أن نقاط الغليان البارزة في مرحلتنا تتجسد في الطوائف والمذاهب خصوصاً، وهذا ما نتبيّنه في سوريا، حيث يتضح للباحث أن هنالك مظاهر تشي بذلك. ففي سياق الانتفاضة الشبابية الكبرى، التي تطورت مطالبها إلى مطلب إسقاط النظام الأمني القائم فيها، نشأ نوع من الرعب في هذا الأخير، جعله يصعّد الحل الأمني، بحيث وصل إلى مرحلة الصراع المسلح، ليحول دون السقوط. وأضاف إلى ذلك لَعِباً خطراً بالمسألة الطائفية وبإمكانية تفجيرها، بحيث قد تقود إلى تقسيم سوريا وفق التعددية الطائفية فيها.
وبذلك، دلّل النظام على أنه -بحسب الظروف التي تحيط به- لا يكتفي بأن حكم سوريا على مدى أربعين عاماً، بمقتضى قانون الاستبداد الرباعي (الاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية)، وإنما هو يحتاج الآن إلى الانعطاف باتجاه خطوة جديدة ربما تضمن له استمرار وجوده، وهي تفتيت سوريا حسب تعدديتها الطائفية. فيكون -بذلك- قد وقع في مشروع “سايكس – بيكو” المذكور رقم (2).
وأمام تلك المعطيات الكبرى والخطيرة، يظهر المطلب التاريخي بالعودة إلى الوحدة الوطنية المؤسَّسة على كل مكوٍّنات المجتمع السوري، من أقصاها إلى أقصاها. ومن شأن ذلك أن يُفضي إلى النتيجة التالية، وهي إعادة بناء المجتمع السوري عبر العودة إلى “الموزاييك” المكوِّن له في تشكيلة عصرية متقدمة، وفي ضوء مفهوم “العقد الاجتماعي”. أما هذا الأخير فهو الذي يمثل حجر الزاوية لمجتمع مدني ديمقراطي قائم على تعددية سياسية ثقافية، وعلى احترام المكوٍّنات المجتمعية المذكورة في نسيج وطني دقيق، وكذلك على مبدأ تداول السلطة…إلخ. ونحب أن نضيف أن “السياسة”، التي سُحبت من المجتمع السوري، ينبغي إعادتها إليه في إطار حراك سياسي وثقافي شامل وعميق. وذلك هو ما يمكن أن يحافظ على الوحدات الوطنية في العالم العربي المضطرب.