استحقاق الكرامة
رشا عمران
(إلى أبي في ذكرى وفاته وإلى أبناء جيله من المثقفين) كان علي أن اذهب إلى قبرك، أن أتأمل الرخام البارد الأملس، أنا أرى صورتك الفحمية وملامحك التي أحفظها غيبا، وأن ألاحق النمل المتسرب من جذع شجرة السنديان العتيقة التي تظللك، النمل بنسقه الأنيق الذي سيدلني على وحشتك هناك.
كان علي أن أكون وحدي هناك، معك، حيث لاشيء غير الفراغ الخريفي وغير ترجيع ذاكرة لم يغب وجهك عنها ولم يغب حضورك ولم يغب صوتك ولم يغب حزنك ولم يغب فرحك ولم يغب ضعفك ولم يغب خوفك ولم تغب خيباتك ولم تغب دهشتك وشعرك وألمك وعالمك وإيمانك وإلحادك وترددك وحسمك وتشوشك ووضوحك وكرمك ونبلك واستهتارك وعنايتك وصخبك وهدوؤك ونساؤك وصحبك وقلمك وغليونك ونومك وسعالك وسكرك وصحوك وغضبك وحنانك.
خمسة عشر عاما وأنا احمل كل هذا ولا أقتلك ولا أحييك، خمسة عشر عاما لم أزر قبرك فيها خمس مرات، لم أكن معنية بزيارة حجر ولو من رخام، الموتى لا يسكنون المقابر، الموتى يسكنون الذاكرة، وذاكرتي معي لا تغادرني، غير أننا لا نكلم الذاكرة، لا نعاتبها، نعجز عن فعل هذا، كان علي أن أزور قبرك إذا فأكلم النمل الداخل بين شقوق الحجر الرخامي لينقل كلامي إليك كما ينقل مؤونته بنسق أنيق فريد، وكنت سأثق بالنمل، أو علي أن اثق بالنمل، النمل لن يحتج على قولي ولن يجادلني، لا ينتمي النمل إلى أحد، محايد هو وصامت مع الأحياء، لا موقف له معهم، يجادل الموتى فقط، وأنا حية وأنت ميت، هل أنت ميت فعلا؟ الموتى الحقيقيون لا يتركون أثرا، كأنهم ما وجدوا يوما، كأن لم يمروا على الأرض، لكنك مررت بقوة، لكنك الآن، بعد خمسة عشر عاما من موتك أنت حي، سيخبرك النمل كيف، سأخبره أنا أولا فيخبرك : أنا أراك الآن، نعم أراك، كل لحظة منذ سبعة أشهر أراك، منذ أن كبرت نينار، لن تعرف نينار الآن، تلك الطفلة الموردة المشاغبة، كبرت، لحظة قرأت خبر اعتقالها وكانت قبل ساعات معي، صرت أنت معي، عدت من موتك وبقيت معي، تلك اللحظة لم تعد نينار ابنتي المناكفة، ولم أعد أنا أما لا تعرف طريقة للتفاهم مع ابنتها المناكفة، تلك اللحظة صارت نينار مستقبلا، جيلا كاملا كنا نظن أننا أعطيناه ما يجب علينا وعليه أن يتابع وحده ،هكذا ظننا الحياة، جيلا يسلم جيلا، هكذا فعلت معي، هكذا فعل جيلكم معنا، لكننا سلمنا لهم صمتا وركونا وخنوعا وخضوعا ورضوخا لأمر واقع لم نكن راضين عنه ولم نجرؤ على تحريك ساكنه، انتم سلمتم لنا الخوف ونحن سلمناهم الرضوخ، أو هكذا ظننا، لم يرضخوا، رفضوا العيش في زمننا ونحن لم نبتعد كثيرا عن زمنكم! سأعيد عليك القصة: لحظة قرأت خبر اعتقال نينار في مظاهرة تهتف فيها للحرية وتهتف لأن توقف السلطة السورية قتل الأطفال والشباب في درعا حضرت أنت إلي، لم تكن وحدك، أنت وكل من عرفتهم معك، من ماتوا ومن مرضوا ومن تنحوا ومن نكصوا، حضرتم تجمعكم هزائم أعرف نتائجها جيدا عليكم وعلينا، تلك الثورة التي شاركتم فيها عام 1963، الجدار الذي توقعتم أن يسندكم ويسند سورية معكم لم يكن غير جدار من الطين الموحل، سقط أول ما سقط فوق رؤوسكم، طمر الوحل بعضكم ونجا بعضكم لنقاء أصيل في داخله، لكن الناجين منكم قبعوا في المنجى الفردي لكل منهم، كان ذلك هو الحل الأسهل ربما في وقت كانت الجموع تبدأ كرنفال الرقص للمستبد ببزته الخاكية وحذائه الضاغط، هل تذكر ذات يوم قديم في نقاش بين ابنة مراهقة ووالد مثقف قلت لي اقرأي طبائع الاستبداد للكواكبي وحين بحثت عنه في مكتبتك لم أجده، سألتك مستهجنة، قلت لي: طبائع الاستبداد نتأملها يوميا في سورية، لكنك أحضرته لي في اليوم الثاني وقرأته وتحولت شيئا فشيئا إلى متأملة للاستبداد وطبائعه التي طبعت سورية بكامل مساحتها، ومثلك أنا اخترت الحل الفردي للنجاة من خرابه، مثل الكثيرين غيري، لم يكن الخوف هو السبب الوحيد بل اليأس أيضا، قلت لك لم نستطع أن نبتعد كثيرا عن زمنكم! لكننا، مثلكم ربما، لم نعرف أن الخراب اشتغل حتى على الروح والضمير، كيف سأشرح لك ما يحدث الآن؟
كيف سأحتمل أن اشرح دون أدل على ذنبكم أنتم؟ كيف سأبرؤكم جميعا مما يحدث؟ أنتم، أقصد من كان يجب أن يدلنا على سوريتنا أولا، سورية التي استلمتموها بلدا معافى أو شبه معافى وتركتموها لنا خربة أو قنبلة ستنفجر كل لحظة، كيف سأخبرك عن الدم السوري الذي ينزف من جسد سورية كل يوم، كيف سأخبرك أن السوري يقتل السوري دون أي رادع؟ وأن في سورية الآن قد يقتل الأخ أخاه لأنه يطلب الحرية، كيف سأحتمل أن أرى حزنك لو عرفت أننا، نحن ابناءك، في البيت الواحد انقسمنا، وان ثمة ممن تعرفهم انت واعرفهم أنا خبئوا ضمائرهم مع ألبومات صورهم القديمة وعلقوا عارهم على الجدران يتباهون بعبادته؟! هل أخبرك عن مرارتي وخيبتي وأنا أرى موات أرواح من أحببتهم في طفولتي ومن كبرت وهم حولي؟ لا تصدق؟ سأعيد عليك القصة إذا: يوم قرأت خبر اعتقال نينار في مظاهرة تهتف فيها لدرعا، انتبهت أنني لا اعرف عن درعا شيئا، ويوم ساندت حمص درعا انتبهت أنني لا أعرف من حمص إلا المثقفين، ويوم ساندت حماة حمص ودرعا استرجعت سيرة حماة في الثمانينات وانتبهت أنني مثل غيري اسميها سيرة (أحداث حماة) وهي مجزرة بكل ما تعنيه الكلمة، ويوم ساندت إدلب وريفها إخوتها انتبهت إلى وعي شباب إدلب وريفها، هل أخبرك عن ريف دمشق، عن الغوطة؟ كانت المجازر تنتقل، ويا لعاري كنت لا أعرف ابناء وطني إلا بعد المجازر! ويا لعاري أكثر، أبناء عمومتي يحملون السلاح في وجه أبناء وطنهم بذريعة الخوف، الخوف الذي كنتم تعرفون كيف يغرسه المستبد في النفوس وصمتم عنه عاما وراء عام، الخوف الذي لم تشتغل ثقافتكم إلا على تكريسه وأنتم تروجون للخيبة ولليأس وللدمار وأنتم تنذرون بالكارثة دون حلول، ليس دور الثقافة أن تقدم الحلول؟ ربما؟ لكن دورها أن تبقى على الأرض، بين البشر، لا أن تتكرس كهدف نخبوي! النخبوية كانت حلا سهلا للابتعاد عن فعل التغيير بعد عجزكم الايديولوجي عن هذا الفعل، نحن مثلكم ورثنا ما تبقى من أحزابكم وورثنا معها العجز والاسترخاء مع فكرة النخبة وورثنا الخراب،، لكن الزمن أقوى،، الزمن لم يقف عندكم وعندنا، أولادنا نحن، أحفادكم، رفضوا أن يرثوا تركة موحلة، واكتشفوا الشارع واكتشفوا مع الشارع أصواتهم، هزئوا بنا وبأفكارنا وبعلمانيتنا الواهية، أولادنا، الملحدين منهم والمؤمنين، في الشوارع الآن، يطلبون الحرية لمستقبلهم ولما تبقى من حياتنا، يخرجون إلى الشارع من الجوامع ومن الكنائس ومن الجامعات ومن المدارس يتجمعون في الأسواق ويخرجون وفي المقاهي ويخرجون وفي الساحات ويخرجون، عزل إلا من إرادتهم وفخرهم بكرامتهم، يعتقلون ويخرجون، ونتأملهم قبل نومهم ونغرس تفاصيلهم في مساماتنا، نحضن روائحهم كي لا يستبد بنا الخوف من فقدهم!! نينار كبرت يا ابي. هذه الطفلة المشاغبة كبرت واكتشفت الشارع وصوتها ومستقبلها وأخذتني معها لعلي أدفع بعض ما علي من استحقاق الكرامة لي ولها ولسورية كلها.
كان علي أن اذهب إلى قبرك وأخبر الحكاية للنمل المتسرب بين شقوق حجارتك الرخامية الباردة ،لكنني انكفأت خشية ردة فعل الخوف من حرية نينار وحريتي عند ابناء عمومتي.
القدس العربي