استرجاع الموت من الأبد
روجيه عوطة
في شهادة نشرها في العدد السادس من مجلة “كلمن” الفصلية (ربيع 2012)، وحملت عنوان كتابه “موت الأبد السوري”، الذي يصدر قريباً عن “دار رياض الريس”، كتب الزميل الروائي والصحافي محمد أبي سمرا سيرة شاب سوري، يقيم في بيروت منذ عام 1999، زار في رحلة برية سرية مدينته الأم، حمص، بعد اندلاع الانتفاضة السورية. مثلما حياته مقسومة بين مدينتين، كذلك روايته منام مرعب أبصره في بيروت، وكوابيس يومية عاشها في حمص. إلا أن الكابوس الواقعي، بالتظاهرة التي تسبقه، وبالجنازة التي تتبعه، أفضل من منام “الأبد” الوهمي.
على إثر منامه البيروتي الفظيع، قرر الشاب أن يزور حمص خلسةً، وذلك من خلال أحد المعابر غير الشرعية التي تربط الشمال اللبناني بالجنوب السوري. وقد قرأ على أحد المواقع الإلكترونية ما كتبته رزان زيتونة عن هتاف “شاميّة… شاميّة… شاميّة”، الذي صرخ به المتظاهرون في منطقة الزملكا قرب دمشق، ما جعله يلملم ذاكرته المشطورة بين أمه وجدته وخالته آمال، ويصر أكثر على زيارته السرية إلى مسقطه. يصل الشاب إلى منطقة وادي خالد، خائفاً ومرتجفاً، وبلا صوت أو جسم، يحملانه على التعبير عن ذعره الشديد حيال مغامرته، فلم يدرِ كيف قطع النهر الفاصل بين البلدين، ولا كيف حطت به قدماه على الضفة السورية. كل ما يتذكره أن يداً انتشلته من الماء الذي كان رملاً متوهجاً يدفن جسمه حتى الكتفين في الحلم الذي رآه قبل أن ينطلق من لبنان نحو مدينة حمص.
على أحد مقاعد الفان الذي يسير به في الأراضي السورية، يغفو الشاب كأن دخوله إلى سوريا قد أعاده إلى الرحم فاعتراه النعاس ونام. لكن رصاص الشبيحة يقطع هذا النوم الرحمي، فيستيقظ الشاب، أو بالأحرى يستعيد وعيه كاملاً. عند المساء في منزل أحد الناشطين في حمص، الذي يخبره عن تسلسل أحداث الانتفاضة في المدينة. فالتظاهرة الأولى كانت في حيّ الخالدية، وهو مكان ولادة الشاب، ثم عدد من التظاهرات التي لحقتها التظاهرة الكبرى في 17 و18 نيسان 2011، التي حشدت نصف مليون شخص في ساحة الساعة التي شهدت في تلك الليالي مذبحة تُضاف إلى جرائم البعث. فقد دعا عدد من الناشطين إلى اعتصام في تلك الساحة، بعد مقتل سبعة أشخاص من أحياء حمصية مختلفة، وبدأ سكان المدينة بتلبية الدعوة. أمام المشهد الشعبي، هدد الأمن والشبيحة المتظاهرين والمعتصمين باقتحام الساحة وارتكاب مذبحة في حقهم. بعد ساعات، راح الرصاص ينهمر بشدة على الحشود المعتصمة، وبالتوازي مع إطلاق النار، جال رجال الأمن في سيارات الإطفاء في الأحياء المسيحية والعلوية وأطلقوا بمكبرات الصوت دعوات إلى الجهاد لترهيب الساكنين في تلك الأحياء من الإسلاميين الأصوليين.
المتظاهرون الذين أتوا في تلك الليلة إلى الساحة واعتصموا فيها، وصمدوا تحت النيران الأمنية، أردتهم الرصاصات جثثاً، فهم الذين اصطحبوا أجسامهم إلى الشارع كي يشعروا بها على خلاف ما كانوه قبل 18 آذار 2011، يوم اندلعت الإنتفاضة في درعا. كأنما المتظاهرون لم يمتلكوا أجسادهم إلا عندما تجمعوا في الساحة، ولكن في تلك اللحظة حصلت المذبحة، ففي بلد محكوم بـ”الأبد”، وبـ”اللا-زمن”، والخلود، لا يمتلك المرء جسده سوى في موته. نقل رجال الأمن الجثث إلى الشاحنات وأخذوها إلى مكان مجهول، ثم شطفوا الساحة من الدماء بينما كان البعض منهم يحتفل بالمجزرة ويعلو هتافه “الله وسوريا وبشار وبس”.
بعد حصول المذبحة، انكفأ المتظاهرون والناشطون إلى الأحياء والشوارع الداخلية حيث بدأوا بتنظيم تظاهرات ومسيرات طيارة، لا وقت محدداً لها بين ليل المدينة ونهاره. وكي يعوق الأمن خروج أي تحرك شعبي داخل الأحياء أو خارجها، في ساحاتها العامة أو في مساجدها، أرهب المواطنين وأثار النعرات الطائفية ومهد للإقتتال المذهبي بين السنّة والعلويين والمسيحيين، على رغم وجود معارضين وناشطين كثر من كل الطوائف التي تحتضنها حمص، كان العنف الذي افتعله الشبيحة في الأحياء العلوية رُد عليه بالخطف والقتل في الأحياء السنية والعكس أيضاً. ولم يوّفر الأمن أي جنازة من رصاصه، فأصبح السائرون في الجنازات عرضة للموت المباشر في كل لحظة مفاجئة. كما استعمل رجال الأمن سيارات الإسعاف في هجماتهم على الأحياء وقتل سكانها ثم خطف الجثث، التي لا تُسلَّم الى ذويها من دون توقيع أوراق تفيد أن “المجموعات المسلحة” هي التي نفذت عمليات القتل، ويفرض الأمن على ذوي المقتولين تشييعهم بسرعة وأن تقتصر الجنازات على العائلة والأقارب فقط. لا يكتفي الأمن بقتل المتظاهر بل يحدد له جنازته ووقت دفنه والمشيّعين، وهذه آلية من آليات سياسة “الأبد” التي تسيطر على طريقة الموت وتمحو الوقت وتعطل الجسم وتقضي على الذاكرة.
في العودة إلى المنام الذي أبصره الشاب في بيروت، يمكن تعيينه كنقطة الإنطلاق نحو تفسير هذه الشهادة التي لا تنتهي مع نهاية سردها لأنها مساحة مصادفات، والأخيرة هي الكفيلة صنع الرواية على قول ميلان كونديرا. المقارنة بين المنام الوهمي والكابوس الواقعي في مدينتين مختلفتين، تسمح بالوصول إلى التغيّر الذي حصل في علاقة السوريين بالموت المعبّر عنه بعثياً بـ”الأبد”، أي بطمسه وتقطيعه وإزالته. وعندما يدوّن الشاب حلمه في أوّل شهادته، يُخبر عن محو الموت القسري، والمفروض شعرياً، كما لو أن “الأبد” هو الموت شعراً. فهو كبت الموت الظاهر رمزياً في منام الشاب البيروتي، الذي على أساسه يروي رحلته السرية إلى حمص. الكبح الشعري يطال الجسم المحبوس تحت الرمل والدم، ويصيب الصوت المكتوم أو الذي اقتلعت حنجرته مثل صوت ابرهيم قاشوش الحاضر في حلم الشاب بعنقه المذبوحة. حاول الشاب أن يفكك “الأبد” في حلمه، وعندما استيقظ، وذهب إلى حمص، عاش مشاهداته الحلمية في الواقع. وفعلاً، لم يشعر بجمسه، وفقد صوته، ولم يعد يشعر بالوقت سوى كأجزاء لا يجمعها مكان عام، لأن الشبيحة ورجال الأمن سيطروا على كل بؤرة في هذا الفضاء.
يعلم الشاب أن البلد محكوم بألوهية الأسد الإبن، وأبديّته التي ورثها عن أبيه، فلا يزال الأب يراقب إبنه ويحميه من كل حدث زمني قد يسلبه الأبد وسلطته. وقد جرى التوريث ، فمع هذه العملية تحوّلت السلطة رمزاً أحادياً يدل على الخلود فحسب، وربما سيفضي هذا الرمز بنظام البعث إلى السقوط من دون أن تدري العائلة الحاكمة نتيجة اطمئنانها إلى حكمها المؤبد بالأمن الدنيوي والخالد بإرهابه الألوهي، فيتكلم الشاب على أن رجال الأمن أرغموا المعتقلين على الركوع وتقبيل صور الأسد باعتباره الإله، وذلك للتوبة عن الكفر والتشكيك في خلوده. إذاً، تمكن “الأبد” من الموت، غلبه. وتحت وطأة الكبح صار الموت شعراً. لكن من رمزيته، كما في حلم الشاب، يتفلت السوريون من سطوة الخلود في لعنة الربيع السوري التي تذهب إلى مخترع مقولة “الأبد” وتسترجع موتهم منه: “يا حافظ يلعن روحك يا حافظ”. يسترجع المتظاهرون الموت شعرياً، في انتظار أن يصبح نثرياً ينتصرون به على كل “أبد”. للمرة الأولى يستبدل السوريون عبارة “الأبد” البعثية بـ”الموت”، ويضعون نهاية لحكم الخلود. فحين تناصر حمص مدينة درعا، يهتف المتظاهرون فيها “يا درعا حنا معاك للموت”، وليس “يا درعا حنا معاكِ للأبد”. هذا الشعار يصوغ علاقة المتظاهر بالموت مرةً ثانية، بعيداً من شعر السلطة، أي من كبتها الموت نفسه. بفعل الصياغة الجديدة، يعود الجسم إلى دائرة الشعور به، والوقت إلى جريانه المنظم في فضاء لا وجود لمؤسسات الأبد فيه، بعدما خفق قلب الموت من جديد.
النهار