صفحات الثقافةعمر قدور

استشراق ثوري/ عمر قدور

عندما راحت التظاهرات تنطلق من الجوامع السورية إنبرى البعض للتشكيك في أهدافها، بينما ذهبت غالبية المثقفين إلى تبرير الأمر بالحصار الأمني الخانق الذي لا يسمح بالتجمع إلا في المساجد؛ ذلك قبل أن يبدأ الشبيحة بحصارها واستباحتها أيضاً. بعض المثقفين عدّ خروج المتظاهرين من الجامع أو في يوم الجمعة شأناً منطقياً، لأن الوجدان الشعبي العام وجدان إسلامي، مع التفريق بين الإسلام الشعبي والسياسي. البعض استرجع مقولة الصادق النيهوم عن الأصل في الجامع ويوم الجمعة، بوصفهما معاً مكاناً ويوماً للتفاعل السياسي العام، على الضد مما حصل لاحقاً ولقرون طويلة عندما أصبحت الجوامع منابر لواعظين يقرّعون أولئك الجالسين مطأطئي الرؤوس.

عطفاً على مقولة النيهوم كان يمكن لتلك التظاهرات أن تأخذ بعدين متضافرين، فهي ثورة على السلطة السياسية كما هو واضح من شعاراتها، وثورة على السلطة الدينية من حيث استخدامها للمساجد على نحو يلغي مكانة الوعّاظ. غير أن تلك الثورة المركّبة لم تحدث، والذي تبوأ الصدارة حتى الآن هو الصراع على السلطة السياسية؛ فضلاً عن الصراع على الجوامع، أو بالأحرى الصراع على المنابر فيها مع الإبقاء على الجالسين مطأطئي الرؤوس.

الصورة النمطية

ذلك قد يقدّم بشرى سارة للمتشككين أصلاً بالثورة، ويتسبب بالإحباط لأولئك الذين حمّلوها أكثر مما تحتمل فعلاً. القسم الأول من المثقفين لم يعد يخفي سعادته مع الأخبار عن بروز الجماعات الجهادية في سوريا وتركيز الإعلام عليها، فقد أتته الفرصة أخيراً ليهتف: “انظروا ها هي الثورة، ألم نقل لكم من اليوم الأول إنها ثورة أصولية سلفية؟”. أما القسم الثاني فيبدو محبطاً حقاً، والبعض منه لم يعد يخفي يأسه من الثورة، ويتهمها بالانحراف عن الأصول الأولى، أو يدعو ضمناً إلى نقد حماسته الأولى التي جعلته يثق بأولئك الذين خرجوا من الجوامع.

في الحالتين يبدو أن “الشعب” ليس على قدر تطلعات المثقف، مع إعطاء الأولوية للمتشككين به سلفاً. ومع أن المحصلة تكاد تكون هي ذاتها إلا أن هذا ينبغي ألا يحجب جذور الاختلاف الموقت بين الطرفين، فهناك أولاً المثقف الذي يحمل صورة نمطية مسبقة عن “الشعب”، لذلك لم يمتلك سبباً ليتجشم عناء التمحيص في الثورة وأسبابها، ومن ثم تعرجاتها، وهناك أيضاً المثقف الذي فرح حقاً بوجود الشعب، وفرح بأن أولئك المختلفين عنه يشاطرونه النزوع إلى الحرية، بعد النظر إليهم لمدة عقود ككتلة متخلفة خانعة.

ليس مستغرباً ممن رأى السوريين منذ بداية الثورة بوصفهم طائفيين متطرفين أن يتلقف دعاية النظام عن الجهاد وتوابعه من جنس ومخدرات؛ تصديق اتهامات من هذا القبيل لا يدل فقط على انحياز سياسي أعمى، لأن الدعاية التي صممها النظام لتلاقي المزاج الاستشراقي في الغرب تلاقي تماماً المزاج الاستشراقي للمثقف المحلي ولمثقفي الممانعة العرب، من دون أن ننفي عن بعضهم الابتذال والإسفاف اللذين يضعان البعض في مصاف الأبواق المأجورة. في الواقع لا تكفي التربية السياسية التي كانت تركز على مفاهيم النخبة والطليعة لفهم تعالي المثقف على الشعب، ما لم تكن مشفوعة بالإرث الاستشراقي الذي يجعل المثقف يتقمص موقعاً خارجاً تماماً عن المجموع الذي لم يعد ينتمي إليه إلا بحكم الجنسية. الشعب وفق منظوره يتمتع بصفات جوهرية وثابتة، فهو أولاً كتلة منسجمة، ثم هو صاحب خصائص غير قابلة للتغيير لأنها نابعة من عقل جمعي راسخ، وهو شعب ذكوري يستخدم “حريمه” ضمن ثنائية القمع والمتعة؛ باختصار يكاد يكون شعب الكتب الصفراء؛ شعب ألف ليلة وليلة التي لم يقرأها الكثيرون بقدر ما قرأوا مشتقاتها الغربية.

لا بد من التنويه هنا بأن الشعب المقصود هو “شعب” الثورة، وهذا التصنيف لم يعد يخفي طائفيته وعنصريته بانتقاء مكون من مكونات السوريين لوصفه بخصائص بنيوية، ولن يكون مهماً هنا تفنيد المقولات التي تتناول مفهوم الشعب لأن التنميط الذي نناقشه خارج نقد مفهوم الشعب برمته. في الواقع لا يخرج التهليل الذي أبداه بعض المثقفين للشعب “الذي يريد إسقاط النظام” عن المسبقات التي ينظر بها القسم الأول، فالحماسة الهائلة لم تكن وليدة اليأس السابق وحسب؛ لقد كانت أيضاً وليدة النظرة المسبقة، فبات التغني بكل ما يصدر عن الشعب المُكتَشف حديثاً عنواناً للتطهر من تلك النظرة التي كانت إلى وقت قريب تجمع عموم المثقفين. لقد عبر الكثير من مثقفي النوع الثاني عن أسفه وندمه لأنهم لم يكن يعرف سابقاً أولئك الناس “الرائعين” الذين انتفضوا في أماكن قصية من البلد. مثقف هذا النوع أيضاً كان شديد التمحور على ذاته، وعلى الحيز الجغرافي الصغير الذي يضمه مع أقرانه، ولم يكن يرى العالم إلا من زاويته. كان العالم الذي لا يظهر على وسائل الإعلام، ولا تعتني به مراكز بحوث مرموقة، كان ذلك العالم نكرة ومجهولاً، ولأنه هكذا يمكن إهماله، أو تعبئة العوز المعرفي عنه بمخيال ثقافي كما حصل للمخيال الاستشراقي في أسوأ حالاته. المخيال ذاته سنراه في بداية الثورة يملأ الفجوات المعرفية ليعلي من شأن ما كان إلى وقت قريب لا قيمة له، ولا وجود حقيقياً له في الأذهان.

غنائية المثقف

لا ينبغي أن نستبعد هنا فهماً للثقافة يقتصر على المشتغلين في الحقل الثقافي، وهو حقل كان يقتصر على فهم أحادي للثقافة وينفي عمّا عداه كفضاء رمزي وكأفراد. الوضعية المثلى التي اتخذها المشتغلون في الثقافة هي وضعية “الهامشي”، ولم يكن مصادفة أن تلقى نصوص “الهامشي” الرواج الأكبر خلال ثلاثة عقود سبقت الثورة، فزعم “الهامشي” يتعالى على واقع التهميش والإقصاء الذي يتشارك فيه المثقف مع المجتمع ككل؛ به يبدو تهميش المثقف خياراً ذاتياً، بينما إقصاء المجتمع نابع من قابليته البنيوية للتهميش، أما المركز في كل الأحوال فيتمثّل في السلطة كأداة للمقايسة، وعلى الأغلب كقوة لا تُقاوم.

اليأس من الثورة السورية، ومن الربيع العربي عموماً، هو بدوره من الترسيمة الثقافية السابقة، فالمثقف هو أكثر من يمتلك ترف اليأس، وأكثر من يمتلك قابلية التنصل من ثورة لم تعدّ تلبي تطلعاته وآماله، ومن “شعب” أثبت أنه ليس على قدر المسؤولية. فالحماسة للشعب سرعان ما تتضح أنها حماسة مشروطة بانتقائية ثقافية صارمة، إحدى ركائزها الأساسية ألا يجرح الشعب غنائية المثقف، وألا يكشف عن هشاشة سرديته الجديدة عن الشعب الثائر، تحت طائلة العودة إلى السردية السابقة التي ترى فيه مجموعة من البشر الغامضين الذين لا يستحقون الثورة ولا الحرية.

في الواقع كانت الثورة فضيحة المثقفين الذين طرحوا مقولات بائسة للتهرب من استحقاقها، مقولات يمتح بعضها من أسوأ ما خلّفه المخيال الاستشراقي عن الآخر، لكنها أيضاً فضحت النقص الهائل في معرفة عموم المثقفين السوريين بمجتمعهم. قلة هم الذين حاولوا تجاوز النقص بالاشتباك مع مجريات الأمور وممكناتها، بدل الاكتفاء بظواهرها؛ لعل هذا ما يفسر ردود الأفعال المتسرعة التي يبديها بعض المثقفين على وسائل الاتصال الاجتماعية، والتي بات يغلب عليها التصديق السريع لكل ما يُقال عن الثورة أو تُتهم به. ثمة مناخ من عدم الثقة على أنقاض الثقة المفرطة التي وسمت بدايات الحراك الشعبي. من الجهة الأخرى، لا تزال الثورة تخالف التوقعات، ومن المؤكد أنها لا تلاقي أفضل الآمال، ومن المؤكد أيضاً أنها أفضل من التقديرات المتشائمة. ألا نعيش جميعاً بين هذين الحدين؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى