صفحات مميزةميشيل كيلو

استعادة الثورة/ ميشيل كيلو

    لم تنطلق الثورة السورية من نداء مذهبي ، ولم يكن هدفها اقامة نظام ديني . نزل  السوريون الى الشوارع مطالبين بالحرية والدولة الديمقراطية ، واعلنوا رغبتهم في ان يعاملوا كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ، يخضعون لقانون يساوي بينهم يكون السيد الوحيد في الدولة . ولم يكن لدى السوريين اي هدف اعلى واغلى من الحرية ، التي يريدون ان يتمتع بها شعبهم بجميع مكوناته وفئاته، دون اي استثناء او تمييز ، فتكون دولة مواطناتها ومواطنيها،  دون استثناء او تمييز ايضا .

  في بداية الثورة ، كان السوريون يعتقدون ان حلمهم قابل للتحقيق تدريجيا ، بالتعاون مع قيادات من النظام ابرزها بشار الاسد ، الذي توهموا انه رجل اصلاحي منفتح على التقدم ، لانه عاش لبعض الوقت في بريطانيا : اعرق ديمقراطية اوروبية ، وخبر الحياة الحديثة،  ويريد نقل ما رآه الى سوريا ، بالتدريج وحسب خطة جعلت الاصلاح السياسي اولى خطى الاصلاح، لكنها ما لبث ان شهدت تبدلات متتابعة جعلته آخرها ، بينما كان الاصلاحي المزعوم يعلن في احاديث مع مستشاريه والمقربين منه ان الشعب السوري يجب ان يبقى دوما تحت ” الصرماية ” – الحذاء – ، وان الاصلاح السياسي مستحيل في سوريا ، لأن مجتمعها متخلف الى درجة تجعله غير مستعد له أو ناضج لتحقيقه . لم يسأل الاسد ، رئيس سوريا المسبق الصنع ، عن الجهة التي جعلت المجتمع متخلفا ، ولم ينسب تخلفه الى منتجه الحقيقي : النظام الذي اسسه ابوه وانتهج عن سابق عمد وتصميم سياسات حدثت تخلف سوريا وحولته إلى تأخر غلفته باشكال ليبرالية جديدة بعد استيلاء بشار على السلطة. بما ان الاخير سقط بسبب تلاعبه بالاصلاح وكذبه الاحتيالي والرخيص على شعبه ، فان السوريات والسوريين لم يجدوا خيارا آخر غير الثورة عليه ، خاصة بعد ان فضحته تلك التفاهات التي كان يرويها في خطبه عن التبنيج والتخدير والجراحة الاجتماعية والتطهير والجراثيم ، لاعتقاده كجاهل انها عبقريات تشرح مفاهيم سياسية عليا، في حين كان سامعوه  يشعرون بالمهانة وهم يرون ضحكاته البلهاء ويسمعون حكمه التي تشبه حكم عصر الانحطاط العربي ، وخاصة منها تلك التي تتحدث عن حتمية ان يذهب الى بيت االخلاء من يتناول المسهل في فعل الدواء !.

  عزا السوريون خراب بلادهم الى الاستبداد ونظامه ورئيسه، فطالبوا بالحرية ،عبر اصلاح متوافق عليه اول الامر، ثم بواسطة ثورة شاملة ارادوا لها ان تطيح بالنظام ورموزه ، انخرطت فيها اغلبية شعبية ساحقة انزلت ذات يوم جمعة  37% من بنات وابناء سوريا الى الشارع للمطالبة باسقاط النظام ورحيل رئيسه. هذا الاستقطاب بين الشعب والسلطة ، الذي ازداد وضوحا بمرور كل يوم وتبلور بعيدا عن احزاب سياسية فوجئت بالثورة ولم يكن لها اي دور ميداني في تحضيرها ، لكنها لم تجد وسيلة لخدمتها غير محاولة امتطائها والركوب عليها ، سرعان ما دخل في انزياح اول انتجه عنف النظام وغياب خطة سياسية للثورة ،وعجز المعارضة السياسية في ظل تصاعد الحراك الشعبي ، تجلى في توجه ازداد راديكالية وجنوحا نحو العنف وابتعادا عن السلمية، أحل تدريجيا مقاربات طائفية للحل محل مقاربة الحرية والديمقراطية ، وعبر عن نفسه في ما تبناه المجلس الوطني الوليد من مواقف انتهت إلى  ملاقاة النظام في منتصف الطريق، وساعدته على تحقيق استراتيجيته الرامية إلى تحويل ثورة شعبية إلى اقتتال مذهبي الطابع ، بينما  اعتمدت سياسات اقصائية تجاه اطراف المعارضة الأخرى عامة والداخلية منها خاصة ، ووضعت الثورة في خدمة احزاب المجلس بدل ان تضع هذه في خدمة الثورة . هذه التوجهات سببت انقسامات في صفوف المجلس وشقت المعارضة إلى فصيلين متناحرين ، خارجي وداخلي ، وتركت آثاراً سلبية على الجيش الحر ، في حين دفعها توجهها الخارجي الارتباط إلى وضع الحراك في خدمة سياسات معادية للديمقراطية، تصارعت على الساحة السورية ، وعملت لاحتواء الثورة وتوجيهها الى حيث تريد ، وشاركت في جعل سوريا ساحة صراع متشعب ازداد تعقيدا بلا انقطاع ، شجعه المجلس بمطالبته المتكررة بتدخل خارجي رأى فيه حبل نجاة الثورة .

  في هذه الاجواء وبسببها ، وقع انزياح ثان نقف اليوم امام تحدياته الخطيرة ، نشأ عن انضواء سوريين كثيرين في تنظيمات جهادية برزت من خلال ادائها القتالي، انجذب الشباب وعدد متزايد من منتسبي الجيش الحر إليها لانهم رأووا فيها رد فعل ناجع على عنف النظام، وتبعثر المقاومة المسلحة ، وغربة المجلس الوطني عن الشعب ، وما يتعرض الشعب له من سحق وتدمير . ارتفعت اسهم التنظيمات وتعاظم دورها وازدادت جاذبيتها في اعين الناس العاديين، وحين  دخلت “دولة العراق والشام الاسلامية ” الى سوريا ، بدا وكان الانزياح الثاني اخذ ينتج وضعا جديدا حده الاول النظام وجيشه ،وحده الثاني تنظيمات اصولية لعب دورا كبيرا في تكوين تشكيلاتها الداخلية واستقدام تلك الآتية  من الخارج ، التي شرع يفيد من ورقتها ويقدمها للعالم بصفتها بديله الوحيد والمحتم ، كي يفاقم خشية اميركا وروسيا منها ، ويجبر الأميركيين على تغيير موقفهم منه ، او تقليص ضغوطهم عليه ، ويذكرهم بانهم قد يحتاجون إلى خبرته الطويلة في محاربة الارهاب .

   هذان الانزياحان يقوضان الثورة ويستبدلان نضال الشعب في سبيلها بمعركة تدور بين استبداد قائم وآخر قادم ، يعادي طرفاها اهل الحرية بالشدة ذاتها. لكبح هذا الاستقطاب الخطير ، لا بد من استعادة رهانات الثورة الاصيلة ، وفي مقدمها الحرية ، والمواطنة وحكم القانون والدولة الديمقراطية . لئن كان ثمة من مسوغ لتأسيس ” اتحاد الديمقراطيين السوريين ” فهو يكمن هنا ، في هذه النقطة بالذات ، التي تعتبر امتحانا لجدارة جميع القوى الديمقراطية ، ولوطنيتها وقدرتها على مواجهة تحد يحرف اليوم الثورة عن مسارها المجتمعي والشعبي ، وعلى توحيد مواقف اطرافها المختلفة وسياساتها ، والتعبير عن الكتلة الهائلة من انصار الخيار الديمقراطي المشتتين سياسيا، ويتوقف مصير سوريا على وحدتهم خلف تعبير سياسي يلبي طموحاتهم ، وجوده ضروري للظفر بالحرية والعدالة والكرامة والمساواة ، ولخروج شعبنا من استبداد سياسي يبيده اليوم ، وللحيلولة دون وقوعه غدا بين ايدي استبداد مذهبي لن يبقي منه نافخ نار .

   هل ستستجيب القوى والتيارات والشخصيات الديمقراطية من مختلف المنابت والتوجهات لهذه الضرورة التاريخية، التي تطرح نفسها عليها وتلزمها بقبول الخيار السابق ذكره، ام ستستمر في تجاهل ما يجري من مخاطر مفصلية ، فتفوتها سانحة سيمر وقت طويل قبل ان تتاح لها من جديد ، اذا ما سقطت سوريا الحرية وقامت سوريا الاصولية والمذهبية ، مع ما سيفضي إليه ذلك من انهيار في البنى والتعبيرات السياسية الديمقراطية والمدنية الهشة ، المبعثرة والضعيفة اليوم ، التي لن تنهض من هزيمتها الا بعد مرور زمن  يعلم الله وحده كم سيطول ؟.

  ايها الديمقراطيون اتحدوا !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى