استعادة مجزرة الكيماوي: ننهضُ أو قد لا ننهض/ فدوى سليمان
من أطفأ الشمس؟
من أَشعَلَ البردَ والعتمة؟
24\3\2012
واحدٌ من التواريخ التي ستبقى محفورةً في عمقٍ في ذاكرتي، في زمن مسحِ الذاكرات القسريّ هذا، لأنه التاريخ الذي أَعلَنَ هويتي الجديدة “لاجئة”. منذ ذلك اليوم، وأنا لا أستطيع النوم إلا بفضل حبوب وصفها الطبيب، والتي حين تتناولها تشعر كما لو أنك آلةٌ تُطْفأ، وبعد خمس ساعاتٍ تُشَغَّل.
كما هي حياةُ كلُّ اللاجئين السوريين، ننهض لنشغِّلَ اللابتوب، أو قد لا ننهض، نبقى في فراشنا، لأنه على الأغلب يَنامُ معنا، فعيوننا تبقى مسمرةً فوق شاشته، علَّنا نسمعُ خبراً جيداً عن بلادٍ تعوم على بحرٍ من دماءٍ وأشلاء.
نحلمُ بأنَّ تلك الحربَ المجنونة قد توقفت، وأنَّ المُهجَّرين واللاجئين بدأوا بالعودة إليها، وأنَّ المُخيمات والمنافي لم تَعد لشعبٍ كشعبِ سورية، ولا لأطفالها ولا لنسائها. نحلمُ كما لو أنَّ كلَّ هذا الدمار والتحطيم للمدن، وموت الآلاف بأبشعِ السبل، وتشرَّدِ الملايين، لم يكن إلا محض كابوس. نحلم بأن الموتى عادوا أحياءً، بل إنهم في الواقع لم يموتوا، بل تظاهروا بذلك، ليعرفوا مدى حبّنا لهم، لكنَّ هذه الشبكة التي تُسمى إنترنت لم تكن تحقق لنا أملنا ولا أحلامنا، بل كانت توغلُ بنا من كابوسٍ إلى كابوسٍ أسوأ فأسوأ.
لم أعد أستطيعُ احتمال فتحِ الإنترنت، فقد أصبحنا، حطاماً وأشلاءً، مُلطخين بالدماء من رؤوسنا حتى أقدامنا. بتنا، وكلُّ واحد منا، المشرَّدَ والجائعَ والمحزون، الثكلى والمغتصَبة، المعتَقل والميّت تحت التعذيب، والمُعَدَّ للذبح في كل لحظة، وهذا هو سبب عدم قدرتنا على النوم. لكنني لم أفِ بوعديَ هذا، فقد كنتُ أفتحُ الـ”لابتوب” بين الحين والآخر.
في أحد الصباحات، وبعد مرور أكثر من عام على لجوئي، استيقظتُ وكأنَّ ناراً تلفّني من كلّ الجهات، قلبي يكادُ يتمزَّق، وكنتُ على وشك الاختناق، لا أستطيع التنفس. ألمٌ حادٌّ في صدري وفي يديّ الاثنتين. فتحتُ شباك الغرفة بصعوبة كي أتمكنَ من التنفس، وبدأت أفكِّرُ بالاتصال بأحدٍ ما كي يأخذني إلى المشفى. شربتُ ماءاً غسلتُ وجهي، وسعلتُ بقوة.
اعتدتُ على الاستيقاظِ كلَّ يومٍ على ألمٍ جسديٍّ مُبرح، مرةً في اليدين ومرةً في القدمين، وفي كل مرة يكتشف الطبيب أن لا مرض عضوياً لدي على الإطلاق، حتى أيقنتُ أنَّ أجسادنا تتحطمُ كما تتحطم سورية. لكنْ، اليوم كان الوضع مختلفاً: اختناق! ارتميتُ على الكرسي، مددت يدي وكبست زرَّ تشغيل اللابتوب، بعد انقطاعٍ دام عدَّة أسابيع. كان الخبر الأول الذي يتصدَّر كلّ صفحات الإنترنت:
“مجزرة بالكيماوي، وسقوط مئات الضحايا في الغوطتين الشرقية والغربية -مئات الضحايا أغلبهم من الأطفال والنساء- يموتون اختناقاً جرّاء قصف قوات النظام للغوطتين الشرقية والغربية بغاز السارين”. عادة لا أرى أي فيديو لمشاهد القتل أو التعذيب، لكن لا أعرف ما الذي جعلني أفتح فيديو بعنوان الغوطة الشرقية “طفل يلفظ أنفاسه الأخيرة جرَّاء القصف بالسلاح الكيماوي”، لأرى عشرات الممدَّدين على الأرض عراةً أو شبه عراة، والمسعفون يهرلون في كل الاتجاهات، وواضحٌ أنهم ليسوا مسعفين محترفين، بل هم أهالي الحي أنفسهم. أحدهم جاء حاملاً طفلاً بين يديه، وبدأ ينزع ملابس الطفل كلّها، محاولاً إسعافه، مُردّداً عبارات تنم عن حيرته فيما يفعل، وذعره وجنونه من أجل إنقاذ الطفل. إحدى تلك العبارات كانت “فيق فيق، فتح عيونك. أغسلك بالمي؟ إي رح إغسلك بالمي الباردة..” ويبدأ بالضغط على رئتيه كي يتنفس وهو يقول “اتنفسْ اتنفسْ لا حول ولا قوة إلا بالله.. خود نفس فيك تفتح عيونك؟ تشرب مي؟ رح شربك مي..”، والطفلُ يأخذُ أنفاساً متقطعة، عيناه مغمضتان، وجسده يختلج ويرتجف. فتح فمه وتناول فوهة العبوة، ثم أرخى رأسه إلى الوراء، لافظاً آخرَ أنفاسه، بعدَها ازرقّت شفتاه شيئاً فشيئاً.
لم تكن أصواتاً آدمية تلك التي خرجت مني، وأنا أرى حال المسعفين المصعوقين والمصدومين، محتارين فيما يفعلونه لإنقاذ الأطفال.
لم تكن أصواتاً آدمية تلك التي خرجت مني، وأنا أرى الأطفال لا حول لهم ولاقوة، عراةً أمام شاشات العالم، يخرجُ الزبدُ من أفواههم، ويختلجون بعيون مغمضة. ثم تتلاحق رؤيتي لفيديوهات عين ترما، وجسرين وزملكا، ودوما والمعضمية وداريا وسقبا وعربين، وكفر بطنا وحرزة وحرستا. أجسادٌ صغيرة عارية، مكومة في غرف، وأخرى فوق الأدراج أو الممرات بالعشرات، لفظت أنفاسها أو تكاد، تترافق مع ذُعر المسعفين والأطباء، ودعواتهم بالنجاة للمختنقين، مختلطةً بالشتائم للنظام، وذهولهم أمام الفاجعة، وحيرتهم حول كيفية إنقاذ المختنقين.
تركتُ اللابتوب، ونزلت ركضاً إلى الشارع هائمة على وجهي، وأنا أعول أمام ذهول المارَّة، بَقيتُ بعدها عدةَ أيامٍ أتحدّثُ مع نفسي بصوتٍ عالٍ في الشارع والمترو. واليوم، هببتُ من فراشي كما الملسوعة، ورحتُ أدور في البيت وأهذي بكلماتٍ غير مفهومة، أبحثُ عن شيءٍ لا أعرف ماهو، انتبهتُ فجأة إلى أن رأسي يؤلمني بشدة، ملأتُ كأساً من الماء وشربتُ حبة دولبران، وأنا أشعرُ بالغثيان وبالدوار. قررت أن أفتح الفيسبوك، طالعتني عدةُ صفحاتٍ للأصدقاء والصديقات على رأس منشوراتهم كلمة: استنشاق الموت، بالعربية والإنكليزية، مترافقة مع صورة لرجلٍ وامرأة يضعان القناع الواقي للغازات يحتضنان بعضهما، وفوق الصورة عبارة: “صباحٌ آخرُ لنا كما الشمسُ ونحن قوافلُ الرحيل”، وبعض الصفحات الأخرى كان قد شاركت رابطاً لفيلم من إنتاج حزب الجمهورية حول مجزرة الكيماوي.
عادت إلى ذاكرتي أهوال ذلك اليوم الذي لم يبق فيه أي سوري، أي إنسان يملكُ ذرةً من ضمير، إلا وقد نالت الفاجعة من روحه وأفقدته اتزانه، لكنني استغربت نشرة اليوم، وقد رأيت أكثر من صفحة قد قامت بمشاركة نفس الصورة. فتحتُ الفيديو الذي يبدأ بشاب سوري يبخّ على أحدِ جدران دمشق باللونين الأسود والأحمر: “النظام يُرحِّب بالمفتشين في مجزرة كبيرة بالكيماوي في الغوطة الشرقية”، ثم مشهد لعبور سيارات الأمم المتحدة تعبر شوارع دمشق وتصل إلى أحد الفنادق، ثم دخان يتصاعدُ من داريا، ثمَّ كتابة بالأحمر على شاشة سوداء: “عامٌ على المجزرة والمجرم مازال طليقاً”.
يستعرض الفيلم عدة صور لأوباما ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، مع تصريحات الأول على شاشة العربية، والتي سبقت المجزرة، كما هو واضح من الصورة، بعام تقريباً، بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستتدخل عسكرياً في حال حركت دمشق الكيماوي، وتحذير الثاني الوارد في صحيفة الجارديان، من استخدام الأسلحة الكيماوية في سورية، وتصريحات إيران من قناة دبي “رويترز” بأنَّ استخدام الكيماوي في سورية من كلا الطرفين خطٌ أحمر، ثم استعراضٌ بالفيديو لأجساد عشرات الأطفال مع بعض الشبان ممددة على الأرض، وقد فارقت الحياة، في كفر بطنا، مع صوت أحد الشهود منهياً تعليقه بتاريخ المجزرة 21\8\2013 ، نظرتُ إلى الـ”لابتوب” لأرى التاريخ، ولأجدَ أنه 21\8\2014!
كم مرةً وكم يوماً ستؤلمنا أيادينا؟ سنجهلُ أن هذه الآلام هي ذكرى أيادٍ تبعثرت في انفجار برميلٍ متفجرٍ في حلب. وكم مرةً ستؤلمنا عيوننا في أيامٍ لن نعرف أنها تصادفُ ذكرى عيونٍ انطفأت جرَّاء شظايا الصواريخٍ التي سقطت في حيِّ سكنيٍّ في دير الزُّور، وكم مرةً ستؤلمنا أرجلنا في يوم يكون مصادفاً لذكرى بتر أرجلٍ جرَّاء سقوط قذائف الهاون في حمص، كم مرةً ستؤلمنا بطوننا التي ضمرت جوعاً في داريا والغوطة ومخيم اليرموك في دمشق، وكم مرة ستعبرُ جثاميننا ساحات سورية إلى مثواها الأخير في ذكرى عبور الجثامين من درعا إلى الحسكة إلى القامشلي إلى الرقة إلى إدلب وإلى حماة وريف دمشق، مجتازةً القنيطرة واللاذقية وطرطوس والسويداء! وكم مرةً ستتطايرُ رؤوسنا عن أجسادنا بسببنا، وبترك الآخرين يتدخلون في شؤوننا وتركهم يقررون مصيرنا، وكم مرةً ستؤلمنا أرواحنا وهي تتساءلُ عمن كان خلفَ تلك الأيادي الحقيقية التي كانت تكبس أزرار القنابل والرصاص والمتفجرات باستخدام أصابع أبناء بلدنا! وكم مرةً سنتمزقُ ألماً عندما نسألُ أنفسَنا كيفَ أنَّا خسرنا جميعاً في اقتتالنا، ونحنُ الجاني ونحن المجني عليه.
وفي اللحظةِ الفاصلة مابينَ الموتِ والحياة
تَسطعُ الحقيقةُ كاملة
وَغايةُ الثورة الحُبّ،
والحُبُّ من دون غاية..
22\8\2014
العربي الجديد