استمرار تدمير سوريا/ عبد الستار قاسم
سوريا خارج السيطرة
منطق الدبلوماسية والمصالح
الثغرات واستقرار سوريا
لم تكن الولايات المتحدة الأميركية يوما مهتمة بالاستقرار في سوريا، ولم تعمل بجد من أجل إيجاد حلول للأزمة تريح الشعب السوري؛ فأميركا منذ البداية لم تكن مع بقاء النظام السوري، ولم تكن متحمسة لتسلم فئات إسلامية الحكم.
فهي أرادت أن تتخلص من النظام بسبب ما يضعه من عقبات أمام التسوية مع الصهاينة، ولم تكن معنية بحكم الإسلاميين لأنها لا تطمئن لهم. ولهذا اختارت أميركا -عبر مختلف خطواتها وسياساتها- تدمير سوريا.
فإذا كانت البدائل غير مرضية، فالأفضل إعادة سوريا عشرات السنوات إلى الوراء، حتى لا يتمكن النظام القادم -مهما كان لون جلده- من اتباع سياسات لا تتوافق مع الأهداف الأميركية في المنطقة. وهكذا كان؛ إذ لحق بسوريا دمار هائل، وتشرد الشعب السوري.
سوريا خارج السيطرة
تطورت الأحوال في سوريا بطريقة لم تكن الولايات المتحدة اللاعب الأول في إدارة دفة أحداثها. فقد تقدم الدور الروسي والإيراني بسرعة وتراجع الدور الأميركي إلى الصفوف الخلفية، سواء على المستوى العسكري أو السياسي، والسبب هو أن الرؤيتين الإيرانية والروسية كانتا واضحتين على عكس الرؤية الأميركية التي بقيت فوضوية.
لم تغب أميركا عن المشهد السوري، لكن إدارة الدفة لم تكن بيدها تماما. استمرت أميركا في تقديم الدعم العسكري والمادي عبر أصدقائها في المنطقة، من أجل تغذية الحرب إلى درجة تمكنها من اتخاذ مقعدها المناسب في تسوية الأوضاع في سوريا.
لم تكن أميركا الشريك الفاعل في عاصمة كزاخستانللبحث عن تسوية سياسية، ولم تكن الموجه الأساسي لقوى المعارضة لتسيير الحوارات السياسية وفق الرؤى الأميركية.
ورغم ذلك، لم يغب الدور الأميركي عن المسرح، وبقي فاعلا خلف الكواليس ومؤخرا من فوق الطاولة؛ فهي لا تقبل التهميش، خاصة أن القضية السورية تمس مباشرة الكيان الصهيوني ومستقبله.
تحدت الولايات المتحدة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات منذ بداية نشرها على الأراضي السورية، وذلك لمنع احتكار الروس للأجواء السورية. وبدل أن يؤكد الروس تفوقهم في الميدان الجوي، ذهبوا إلى المهادنة والبحث عن تفاهم مع الأميركيين لتجنب الصدام المباشر في الأجواء السورية.
والملاحظ أن طائرة روسية -على الأقل- قد تم إسقاطها، وتم استهداف القاعدتين الروسيتين غرب سوريا بواسطة طائرات موجهة إلكترونياً، ولم تسقط أي طائرة للأميركيين أو غيرهم من الحلفاء. وقامت الطائرات الحربية الأميركية باستهداف الجيش السوري أكثر من مرة وخاصة في دير الزور، وقدمت القوات الأميركية الدعم المباشر وغير المباشر للتنظيمات المقاتلة.
من الوارد أن روسيا لم تشأ مواجهة الطائرات الحربية الأميركية بسبب ضعف سلاح الجو الروسي؛ فالطائرات الحربية الروسية ليست على كفاءة الطائرات الحربية الأميركية، وكذلك مختلف أنواع السلاح التقليدي، لأن السلاح التقليدي الأميركي متفوق جدا تقنياً على السلاح التقليدي الروسي.
هناك تكافؤ روسي أميركي في الأسلحة النووية، وربما تميل الكفة قليلا لصالح روسيا، لكن السلاح النووي ليس للاستعمال إلا في حالات الخطر المحدق، ولا أظن أن هناك نوايا لاستعماله بسبب الأوضاع السورية.
واضح أن الصواريخ الروسية مخصصة فقط لحماية القوات الروسية في سوريا، دون أن تسبب توترا في العلاقات مع الأميركيين أو مع الأتراك. قال الروس إنهم سيعملون على دعم سوريا إلى الدرجة التي تتمكن معها من حماية نفسها. وكان تفسير هذا القول هو أن الصواريخ الروسية ستوضع تحت إمرة الجيش السوري، لكن هذا لم يحصل حتى الآن.
الأميركيون يحصّنون قواعدهم العسكرية في سوريا، والأتراك مستمرون في التقدم داخل الأراضي السورية، والقوات السورية ما زالت تعمل ضمن المناطق التي لا تثير أعصاب الأميركيين أو الأتراك، وبالتأكيد يتم ذلك بتنسيق مع روسيا.
منطق الدبلوماسية والمصالح
تحرص الدول القوية -التي تملك قوة الردع للآخرين- على المحافظة على كرامة بعضها بعضا. ولا تحاول الدول العظمى -وعلى الأخص الدول النووية الكبرى مثل أميركا وروسيا والصين- أن تلحق بعضها إهانة ببعض، وذلك حرصا على المكانة الدولية للدولة، وخشية حصول رد فعل قوي ينتهي إلى حرب مدمرة.
أميركا حسبت لهذا الأمر إبان الأزمة الكوبية في القرن العشرين، وأرخت الحبل أمام الاتحاد السوفياتي ليخرج من الأزمة بماء وجهه. لكن أميركا لم تحافظ على ماء وجه روسيا في العراق وليبيا، والسبب أن روسيا انحدرت بقوتها إلى درجة أنها لم تكن آنذاك تشكل ردعا.
أما الآن فروسيا تشكل ردعا قويا، لكنه من الواضح أنها قررت فتح الطريق أمام الأميركيين كيلا يخرجوا من الأزمة السورية بدون بعض اللحم. أميركا أقامت قواعد عسكرية في شمال شرق سوريا على مرأى من روسيا وأقمارها التي تجوب الفضاء مئات المرات كل يوم، وكذلك الأمر بالنسبة لقاعدة التنف جنوب شرق سوريا على الحدود مع الأردنوالعراق.
روسيا دعمت بقوة الجيش السوري، وهي تعتبر الآن المحرك الأقوى لعملية البحث عن حل سياسي للأزمة، بينما بقيت أميركا في أغلب الأحيان على الهامش، الأمر الذي يخرج عن المألوف الأميركي. وبما أن أميركا لديها قدرة على تعطيل الحلول -سواء كانت عسكرية أو سياسية- فإن روسيا تجد في إرضائها مخرجا.
ومن الواضح أيضا أن روسيا توصلت إلى تفاهمات -وليس بالضرورة إلى اتفاقيات- مع تركيا لدخول الأراضي السورية لملاحقة الكرد، وخاصة تنظيماتهم العسكرية. وهذه التفاهمات هي حصيلة المصالحة التركية الروسية التي أعقبت إسقاط الطائرة الروسية.
وروسيا لديها مصالح مع تركيا على رأسها توسيع الشق الذي حصل وما زال قائما بين الأميركيين والأتراك. روسيا معنية بتوتر بين تركيا -التي ترفض أي نوع من الاستقلال الكردي- وأميركا التي تقدم دعما للتنظيمات الكردية في شمال سوريا وعلى ضفاف الفرات.
أميركا لا تستطيع التخلي عن الكرد الآن حتى لا تخرج مهزومة من سوريا، وتركيا ترى أن أمنها القومي مهدد مِن قِبل الكرد ومَن يقدمون لهم الدعم. وتأمل روسيا أن تتطور علاقات إيجابية مع تركيا لما في ذلك من مصالح اقتصادية وتقنية مهمة جدا. وربما تسعى روسيا إلى استغلال الخلاف الأميركي التركي عسى أن يكون في ذلك ما يدفع تركيا إلى هجران حلف شمال الأطلسي (الناتو).
الثغرات واستقرار سوريا
في المقابل؛ فإن روسيا ما زالت تصرّ على ضرورة حضور الكرد مؤتمر سوتشي على ضفاف البحر الأسود، رغم المعارضة التركية لذلك. تركيا تملك أوراقا تمكنها من المساهمة في إفشال المؤتمر، ولا بد أن تجد روسيا مخرجا كيلا تستفز تركيا بالمزيد. وهذا يعتمد في النهاية على جدول أعمال المؤتمر ومكان الكرد فيه.
تؤدي الثغرات الأمنية المقدمة لأميركا ولتركيا ضرورة لتمكين التنظيمات المسلحة التي تقاتل الجيش السوري؛ فأميركا وتركيا تتبنيان فصائل وتنظيمات لديها الاستعداد للاستمرار في الحرب. أميركا معنية باستكمال تدمير سوريا لأنها لم تجد لنفسها قيادات سورية مقبولة يمكن أن تسيطر على الدولة، وتركيا تستعمل التنظيمات للضغط فيما يتعلق بالمسألة الكردية.
استمرار القتال يضغط على روسيا، وبالتالي يمكن للجانب الروسي أن يخصص دورين بسقفين عاليين لكل من أميركا وتركيا. أميركا لا تريد أن يبقى الأسد في الحكم، ولم تكن يوما متحمسة لحكم الإسلاميين، فاختارت الدفع نحو استمرار القتال لتدمير سوريا.
ما زالت بعض الأماكن سليمة في سوريا، والأميركيون مستمرون في الدعم لمواصلة الحرب. ولا يغيب عن الأمر دور بعض دول الخليج التي أنفقت أموالا طائلة في سوريا. والخاسر في النهاية هو الشعب السوري الذي عانى المر المرير من ويلات الحرب.
الوضع القائم الآن في سوريا يعني أن التنظيمات المقاتلة تملك المقدرات والإمكانات لمواصلة الحرب، وهي لن تستسلم بسهولة مهما بلغت القوة العسكرية التي تواجهها. ومن المحتمل جدا أن تكثف التنظيمات جهودها لتشكيل خلايا سرية تنام في أغلب المناطق السورية، وتظهر في الوقت المناسب على شكل تفجيرات واغتيالات.
أي أن الوضع القائم لا يساهم في تحقيق الاستقرار بسوريا، وإنما يشكل فرصا لإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية والعسكرية للتنظيمات، التي يمكن أن تكون أشد فاعلية في المستقبل.
وفي المقابل، لا يبدو أن النظام السوري يحضّر جيدا للمرحلة القادمة، ولا يبدو أن الجيش السوري اتخذ التدابير التي يمكن أن تحد من أنشطة الخلايا النائمة.
ولهذا ليس من السهل أن يعلن النظام الانتصار، وليس من السهل على الشعب السوري المشرد العودة إلى تجمعاته السكانية وهو يرى أن خطر الاقتتال وسفك الدماء ما زال قائما. ومن المحتمل أن تتفاقم الأوضاع بالمزيد إذا رأت تركيا أنه أصبح بإمكانها تنفيذ أطماعها القديمة في الشمال السوري.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2018