استنزاف سوريا والعرب!
ميشيل كيلو
من ينظر بعين تاريخية ويتتبع تسلسل الأحداث والوقائع في منطقتنا العربية، سيلاحظ ظاهرة فريدة هي وقوع صراعات استنزافية تستمر لفترة طويلة في بلدان بعينها، يعني انفجارها جر بيئتها القومية والإقليمية والدولية إليها، وتحول صراع محلي صغير بالأصل إلى جرح مفتوح يمتص قدرات وطاقات البلدان التي يدور فيها وطاقات وقدرات محيطه الواسع، القريب منها والبعيد، ويعرضه لنزف لا يتوقف يستهلك قواه ويكبده هو أيضا خسائر فادحة في حرب هو طرف فيها لكنه لا يخوضها بصورة مباشرة.
هذا النوع من الأزمات الاستنزافية لا يحتاج لبدئه واستمراره إلى قوى كبيرة، لأنه يرتكز على عاملين هما: الاستمرار، والقابلية للتغذية الدائمة بقوى وعناصر جديدة تزج بنفسها، أو يزج بها، فيه.
أما الاستمرار، فهو يعني بقاء أبواب الصراع مفتوحة أمام جهات متنوعة هي أحزاب داخلية وهيئات ودول وأحلاف خارجية راغبة في أن تروض أو تحتوي أو تستهلك بواسطته قدرات جهات معادية أو منافسة لها، وأن تركعها أو تشغلها بمعارك لا تستطيع كسبها، لكنها تجد نفسها مجبرة على المشاركة فيها وعاجزة أكثر فأكثر عن الخروج منها، فكأنها طرف رئيسي فيها، مع أنها قد لا ترسل عسكريا واحدا لخوض غمارها.
في حين تعني التغذية الدائمة إمكانية دخول هذه القوى دخولا مفتوحا إلى الصراع، بالقدرات والإمكانات التي تكفل استمراريته، علما بأن دخولها إليه يعقده ويجعله عصيا أكثر فأكثر على التوحيد والإدارة. لا مراء في أن شَرْطي الاستمرارية والتغذية المفتوحة يتطلبان من جانبهما وجود بيئة تضم جهات متعادية إلى درجة تغريها بضرورة الدخول في الصراع، وتوسيعه وتعميقه ووضع قدرات متزايدة فيه، بصورة مباشرة وغير مباشرة، لأن مصالح مهمة تخصها، وأحيانا مصيرها ذاته، يتوقفان على نتائجه، رغم أنه قد لا يدور فوق أراضيها، ولا يستهدف في أحيان كثيرة غير استنزافها.
كانت الحرب الأهلية اللبنانية أحد أبرز هذه الصراعات، التي تخطت نتائجها العامة الأهداف الخاصة بالمنخرطين المباشرين فيها، وفاقت القوى الداعمة لهم قدراتهم المباشرة، بما غلب عليها من طابع محلي، وجعلها حربا منفتحة على معضلات إقليمية ودولية كانت خافية أو تعتبر ثانوية عند انفجارها. بدت الأزمة اللبنانية أول الأمر داخلية بحتة، وبدا أن أطرافا داخلية هي التي تتصارع على أدوار وتوازنات تحدد نمط النظام السياسي وحصة كل واحد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين فيه، باعتبارهم ممثلي طوائف تنضوي مطالبهم وصراعاتهم في إطار مطالبها وصراعاتها. لكن تطور الصراع لم يلبث أن كشف عن طبقات متراكمة من المعضلات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية الشديدة التعقيد المتنوعة المآلات، التي تداخلت وتراكبت مع مشاكل وتحالفات محلية أو تجلت من خلالها. لذلك أخذت الحرب في ظاهرها صورة صراع أو اقتتال بين قوى محلية أو جهوية محدودة القدرات، لكن أدوارها التي تمت بدلالات وسياسات ومصالح خارجية كشفت التعقيد والتشابك الكامنين وراء كل فعل من أفعال الصراع والقتال، مهما بدا بسيطا ومغرقا في المحلية. هذه الحرب، التي دارت بصورة مباشرة بين أحزاب وقوى لبنانية وبدت لبنانية بحتة، كان من أهداف قواها الخارجية غير المعلنة طي صفحة الصراع العربي – الإسرائيلي وفتح صفحة الصراعات العربية – العربية، التي تولى نظام حافظ الأسد رعايتها وإدارتها بموافقة أميركية – إسرائيلية، ونزع الورقة الفلسطينية من يد منظمة التحرير، وهيمنة النظام السوري على المشرق وعزل مصر والعراق وإخراجهما من المجال العربي، وفرض خطوط حمراء أميركية – إسرائيلية التزم الأسد ونظامه بالتقيد بها لفترة طويلة، من ضمن التزامه بالعمل لإعادة هيكلة موازين القوى داخل المجال العربي للإفادة من غياب أو تغييب مصر أميركيا وإسرائيليا والعراق إيرانيا وسوريا، واستنزاف طاقات الدول العربية إلى الحد الذي يمنعها من العودة في أي وقت إلى مصارعة إسرائيل أو التأثير إيجابيا في الصراع الدائر بين منظمة التحرير وبينها على فلسطين، ووضع مقدرات العالم العربي بين أميركا، التي ستستغل فرصة الصراع كي توطد تغلغلها إليها وتخترقها، لتعزيز مراكزها فيها وتصفية حساباتها مع الآخرين.
لا تختلف الأزمة السورية عن هذه الصورة إلا في نقطة رئيسية هي أن الأزمة السورية والحراك في سبيل الحرية لم يحدثا في حاضنة طائفية أو بدوافع طائفية، ولم يكونا نتاج تدخل خارجي أو مؤامرة مدبرة، كما ادعى قادة النظام. بدأت المسألة السورية بثورة شعبية تريد الحرية والإصلاح، رد النظام عليها بحرب شعواء استخدم فيها كل ما يملك من أسلحة حديثة اشتراها الشعب كي يسترد بواسطتها الجولان المحتل، فإذا بحكامه يوجهونها إلى صدره، بينما بقي العدو المحتل بمنأى عنها طيلة قرابة أربعين عاما.
تتقاطع في الأزمة السورية إرادات داخلية وعربية وإقليمية ودولية متناقضة، تخضع الشعب السوري لصراع إقليمي ودولي لا مصلحة أو يد له فيه، يدمر بلاده من جهة ويستنزف المنطقة العربية ومحيطها غير الإسرائيلي من جهة أخرى، ويستهدف بين ما يستهدف كبح التطور الديمقراطي في العالم العربي بعد إيقافه في سوريا بصورة خاصة، حيث يراد للفوضى أن تحل محل الحرية المنشودة، وشطب دولة عربية مهمة من معادلات القوة والصراع في المنطقة عموما، وضد إسرائيل خصوصا. المشكلة أن تدمير البلد يتم على أيدي النظام الحاكم، الذي يشن حربا فائقة الضراوة والتنظيم على شعب يفترض أنه مسؤول عنه، ووطن أقسم رئيسه يمين الولاء له وتعهد بحمايته، لاعتقاده أن أحدا لن يتدخل لوقفه، ولن يمنع القوى الإقليمية من التعارك فيه وعليه، قبل اكتمال تدمير البلاد بيد حكامها، وأنه بدأ يستنزف بالفعل قدرات قوى إقليمية وعربية كثيرة، مع تحوله إلى ساحة تجتذبها وتحتوي طاقاتها، وما يترتب على ذلك من خيارات تتراوح بين إطالة أمده إلى زمن غير محدود، وإنهائه لصالح فوضى سيكون لها النتائج ذاتها بالنسبة لعملية الاحتواء والتقويض الجارية على قدم وساق. هل يفسر هذا وقوف «المجتمع الدولي» متفرجا على صراع يدور بين أطرافه، التي تحل على ظهر الشعب السوري مشكلات لا علاقة له بها وليست من مشكلاته، وتجعل من الصعب، بل والمحال، إيجاد تسوية سياسية داخلية تتم بقدرات السوريين الخاصة، وتضع أقدار سوريا كبلد مستقل تحت رحمة خصوم وأعداء لا يهمهم من أمره غير استغلال مأزقه لتحقيق مآرب ومصالح تلحق به أفدح الأذى.
لم تعد مشكلة سوريا خاصة بها. إنها اليوم مشكلة عربية – إقليمية – دولية من طراز فريد، بما تضمره من مخاطر طويلة الأمد على بلادنا وبيئتها العربية، التي تمر في طور تحول تؤكد جميع علاماته أنه سيكون شديد الخطورة بالنسبة للجميع. والآن: هل يجوز أن تتعامى هذه البيئة عن مخاطر ما يجري، وأن تحجم عن حماية نفسها منه، بالعمل على وقفه بتصميم وحزم وسرعة، ما دام وقفه البديل الوحيد، قبل أن تجد نفسها في قبضة عواصف عاتية تذهب بعافيتها وتورطها في صراعات تقوض حريتها ومصالحها ووجودها، وتدفع بها إلى حيث تدفع بسوريا: إلى الفوضى والخراب.
هل تبدأ بيئة سوريا العربية بالعمل على إنقاذ نفسها من خلال عمل منظم وجماعي، يبدأ بإنقاذ سوريا من نظامها القاتل، وصولا إلى إخراجها من تواطؤ دولي يسهم بفاعلية في قتل شعبها ويهدد وجودها؟
الشرق الأوسط