استوكهولم في سورية/ فرح يوسف
لطالما سمعت في سورية عبارات من قبيل “الدولة درّستنا” “الدولة عالجتنا” “الدولة أوفدتنا خارجياً” و”كلّه ببلاش”، ويمكن اعتبار هذا النمط من التفكير نمطاً شائعاً، وازدادت وتيرة استخدام هذه المصطلحات في مطلع 2011 مع انطلاق الثورة السورية واندلاع موجة الاحتجاجات.
حيث أخذت المناقشات بين الزملاء والأصدقاء، وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة، شكل المناظرات العبثية؛ أحد الأطراف يكون مقتنعاً بأنّ أسباب الثورة مختمرة بالكامل، وأنّ مطالب الشريحة المنتفضة من الشعب مشروعة وحقيقية، بينما يتمسّك الطرف الآخر بطروحات من نوع “شو نقّصت عليكم الدولة”، وهما فكران متناقضان تماماً، وتكاد تنعدم نقاط الالتقاء بينهما.
من المعروف أنّ التعليم في سورية مجانيّ وإلزاميّ، وأنّ المستشفيات الحكومية تقدّم خدماتها بالمجان، وأنّ الجامعات السورية كانت توفد بعثات بشكل دوري للدراسة في الخارج، ولسنا هنا بصدد الحديث عن نوعية التعليم وشكل المناهج المعتمدة والقيم التي تمرر للطلبة في المدارس الحكومية، والمفروضة أيضاً على مؤسسات التعليم الخاص، ولسنا أيضاً بصدد الحديث عن جودة الخدمات الطبية التي كانت تقدّم في سورية، ولا يهمنا التعرّض للفئة الموفدة عادةً للدراسة في الخارج وانتماءاتها الحزبية وخلافه.
إن الأزمة من وجهة نظري تكمن في غياب الوعي لدى شريحة واسعة من الشعب السوري حول آلية عمل الحكومات وإيرادات الدولة وشكل الإنفاق الحكومي. ما يزال هناك خلط كبير لدى الشريحة التي نتحدث عنها –وهي شريحة عريضة ومنتشرة- بين حقوق الفرد وواجبات الدولة من جهة، والمنح والهبات والعطايا من جهة أخرى.
فالفرد هنا يعتبر أنه يرسل أبناءه إلى المدرسة صباحاً بالمجّان، ويقبض راتبه ظهراً من الحكومة التي وظّفته، ويتداوى لاحقاً في مشافٍ مجانية، وكل هذا على حساب الأب الكريم “الدولة” السورية.
إنه لا يُدرك أن إيرادات الدولة تتمثل في الضرائب المفروضة على الدخل والثروات للأفراد والشركات وعلى السلع والخدمات، وإيرادات البنك المركزي، وسندات رأس المال والقروض الخارجية، وعائدات السياحة والثروات الباطنية، وهي إيرادات يتوجّب على الحكومة إدارتها وإخراجها بشكل إنفاق حكومي.
وهذا في الحقيقة فحوى العقد الاجتماعي الذي اتفقنا عليه في المرحلة ما قبل المجتمعية، وانتقلنا به إلى الحالة المجتمعية بشكلها الحالي.
وأحد أقوى أسلحة الحكومات الاستبدادية خفض سقف توقعات شعوبها للحد الذي يصبح معه الإنفاق الحكومي منّة من الحاكم، وهبة يمنحها لشعبه من خزينته الخاصّة، ويحق له سحبها في أي وقت، ويُعتبر المطالب بالمزيد أو حتى بالحدود الدنيا طماعاً وهادفاً إلى تقويض حالة “السلام” التي يعيشها المجتمع، ويكون من الواجب مُحاربته.
وتشبه الشعوب في هذه الحالة المصاب بمتلازمة استوكهولم، وفي استعراض سريع للأعراض التي تبدو على المصاب بهذه المتلازمة نجد تشابهاً كبيراً مع ما ذكرت.
حيث إنّ هذه الفئة لديها مشاعر حب وتأييد للقائد، تجد صوره في خلفيات الهواتف وعلى النوافذ في البيوت، ويقفون بجانبه في أي قرار يتخذه في محاربة من يخالف فكره وأساليبه وإن كانت وحشية في مواجهة معارضة سلمية، وتصل إلى تسليم أفراد العائلة للأفرع الأمنية في حال معارضتهم للسجان/القائد، وعلى النقيض من مشاعر الحب والتأييد هذه هناك زخم من المشاعر السلبية تجاه كل من يحاول تحريرهم من هيمنة القبضة الأمنية والاستبداد، ونجد نفوراً كبيراً من أي نشاط يهدف إلى تحقيق أي قدر من التقدم على سلم الحريات الفردية والاجتماعية.
إنها حالة كاملة من الارتباط بالخاطف حققتها حكومة الاستبداد بأساليب كثيرة، أهمها خلق عدو والتركيز عليه وادعاء محاربته وتنصيب نفسه حاملاً للواء المقاومة، وحامٍ للشعب من هذا العدو الذي مرة يكون الصهيونية ومرة الإمبريالية وأخرى الانفصاليين، بينما ينهش سوء التغذية جسد الشعب، وتغصّ الأقبية من التخمة بمعتقلي الرأي، وعليه يرتبط اسم الخاطف المعتدي بالأمان، ويصبح هو حامي الحمى، وكلّ من يعاديه يكون تهديداً من الواجب وضع حد له.
والآن بعد ست سنوات من الأحداث الدامية لم أجد تبدّلاً في هذه الظاهرة، وإن كان بعضهم قد اتخذ لنفسه خاطفاً بديلاً.
والبديل الأحدث هو الجمعيات الخيرية، وهو ما لمسته من عملي مع عدة جمعيات وجهات، واحتكاكي مع عدد آخر منها، فمع تصاعد وتيرة العنف والدمار الذي طاول أحياء ومدناً بأكملها نشطت هذه الجمعيات بشكل كبير، وعقدت تشاركيات مع جهات خارجية، أبرزها UNDP UNICEF WFP، وأعدت برامج إغاثية للمتضررين على الصعيد الغذائي والصحي والنفسي ووفرت بدائل سكنية، وهو أمر شائع في مناطق الحروب.
الملفت هو الطريقة التي كانت تُقابل بها شكاوى المستفيدين من البرامج المقدّمة، فحين كان يعترض أحدهم على جودة الخدمات المقدّمة أو نوعية ما استلمه من إعانات، وإن تسببت له الخدمة بضرر حقيقي، كأن يُصاب طفله بالتسمم الغذائي مثلاً، فإنّه يُقابل بعدائية من قبل المجتمع، وبخطاب مماثل لخطاب “الدولة عيّشتكم”، فالجمعية أطعمتك وعليك أن تأكل وتشكر، أو أنها ستغضب وتقفل أبوابها وتتركك لتموت من الجوع.
وبدا هذا الأمر بأوضح صوره حين تمّ إغلاق عدد من الجمعيات الخيرية المشهورة في حلب، كان الفساد قد نخر جسدها بالكامل وبات السكوت عن نشاطها مدمّراً، فالدولة عامةً لا تحب اللص الغبي وهم باتوا يسرقون بغباء.
ومن جديد أصبح لهذه الجمعيات شبيحة كشبيحة القائد، بعضهم من المختلسين، وبعضهم الآخر قلق على مصير الموظفين “الذين تفتح الجمعية بيوتهم”، والبقية قلقاً على المصير بغياب الخاطف الرحيم، على الرغم من أن احتياج المدينة مغطى بالكامل لو أن حجم السرقات ينخفض لنسبه المعقولة.
أقيم الآن في فرنسا، لم أسمع عبارات من هذا القبيل، كل ما سمعته هو تعليقات حول أنّ غياب التأمين الصحي في بعض الدول هو أمر مُستنكر، وأن التعليم المجاني والطرقات الآمنة حق واجب على الدولة تأمينه، وأن تدني جودتها يستدعي المحاسبة الفورية والفعّالة كون الشعب ملتزماً بطرفه من العقد.
هل نصل يوماً إلى هذا الوعي حول دور الحكومة، ونخرج من موقع الضحية إلى موقع المواطن؟
العربي الجديد